الرئيسة \  تقارير  \  هل أخطأ بوتين في تقديراته حول أوكرانيا؟

هل أخطأ بوتين في تقديراته حول أوكرانيا؟

23.03.2022
ياروسلاف هيريتساك


ياروسلاف هيريتساك
الشرق الاوسط
الثلاثاء 22/3/2022
تجد أوكرانيا مجدداً نفسها في قلب صراع عالمي محتمل. من ناحيته، أكد المؤرخ دومينيك ليفن أن الحرب العالمية الأولى “قلبت مصير أوكرانيا”. وطبقاً لما ذكره الصحافي الأسطوري إدغار سنو، كانت الحرب العالمية الثانية بمثابة “حرب أوكرانية في المقام الأول”. واليوم، يتوقف خطر نشوب حرب عالمية ثالثة على ما يمكن أن يحدث في أوكرانيا.
الحقيقة أن هذه حالة مذهلة للتاريخ وهو يعيد نفسه. والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا: لماذا كانت أوكرانيا، دولة متوسطة الحجم يبلغ عدد سكانها 40 مليون نسمة وتقع على الحافة الشرقية لأوروبا، محوراً للحرب ليس مرة واحدة، ولا مرتين، بل ثلاث مرات؟
يحمل جزء من الإجابة، على الأقل، طابعاً جغرافياً، ذلك أنه بالنظر لوقوعها ما بين روسيا وألمانيا، يجري النظر إلى أوكرانيا منذ فترة طويلة باعتبارها موقعاً للصراع حول السيطرة على القارة. إلا أن الأسباب الأعمق تاريخية في طبيعتها، ذلك أن أوكرانيا، التي ترتبط مع روسيا في نقطة أصل مشتركة، تطورت على نحو مختلف على امتداد قرون، الأمر الذي جعلها تبتعد على نحو حاسم عن جارتها إلى الشرق.
من ناحيته، يروق للرئيس فلاديمير بوتين استدعاء التاريخ كجزء من سبب اجتياحه، ويؤكد أن أوكرانيا وروسيا هما في الواقع بلد واحد، بل ويرى أن أوكرانيا، في الواقع، لا وجود لها. بطبيعة الحال، هذا القول خاطئ تماماً. إلا أنه محق في اعتقاده بأن التاريخ يحمل مفتاحاً لفهم الحاضر. ومع ذلك، لا يدرك بوتين أن هذا التاريخ هو ما سيحبط مساعيه، بدلاً من تمكينه من النجاح.
عام 1904، أقدم عالم جغرافي إنجليزي يُدعى هالفورد جون ماكيندر على إطلاق نبوءة جريئة. في مقال بعنوان “المحور الجغرافي للتاريخ”، اقترح ماكيندر فكرة أن كل من يسيطر على أوروبا الشرقية سيسيطر على العالم. وعلى جانبي هذه المنطقة الشاسعة، كانت روسيا وألمانيا على استعداد لخوض الحرب.. وفيما بينهما، كانت أوكرانيا بمواردها الغنية من الحبوب والفحم والنفط.
في الواقع، ليست هناك حاجة للخوض في التفاصيل الدقيقة لنظرية ماكيندر، فهي لا تخلو من أوجه قصور. ومع ذلك، فقد ثبت أنها مؤثرة للغاية بعد الحرب العالمية الأولى وتحولت لما يشبه نبوءة محققة لذاتها.
وبفضل الجيوسياسي النازي كارل هاوشوفر، انتقل هذا المفهوم إلى هتلر وسيرته الذاتية التي حملت اسم “كفاحي”. اللافت أنه لم يقرأ لينين وستالين أعمال ماكيندر، لكنهما تصرفا كما لو كانا قد قرآها. وقد نظر الاثنان إلى أوكرانيا باعتبارها الجسر الذي سيحمل الثورة الروسية غرباً إلى ألمانيا، ما يكفل بتحويلها إلى ثورة عالمية. وبذلك نجد أنه من جديد، مر عبر أوكرانيا.
وجاءت الحرب، عندما وقعت، كارثية. داخل أوكرانيا، لقي نحو سبعة ملايين شخص حتفهم. في أعقاب ذلك، حوصرت أوكرانيا داخل الاتحاد السوفياتي، وبدا أن هذه المسألة قد جرت تسويتها لبعض الوقت. ومع انهيار الشيوعية، اعتقد الكثير أن أطروحة ماكيندر قد عفّى عليها الزمن، وأن المستقبل ينتمي إلى دول مستقلة وذات سيادة تحررت من أطماع الجيران الأكبر - لكنهم كانوا مخطئين.
الحقيقة أن حجة ماكيندر، وهي أن أوروبا الشرقية وأوكرانيا كانتا مفتاح التنافس بين روسيا وألمانيا، لم تختفِ تماماً قط. في الواقع، احتلت فكرة هذه الحجة مكان الصدارة في ذهن الرئيس بوتين، لكن مع تغيير واحد، أنه استبدل بألمانيا الغرب بأكمله. ولذلك، تحولت أوكرانيا في عين بوتين إلى ساحة معركة حضارية بين روسيا والغرب.
ومع ذلك، لم يعمل على ذلك في البداية؛ ففي السنوات الأولى من ولايته، بدا أنه يتوقع - مثلما كان الحال مع أولئك الموجودين في دائرة بوريس يلتسين الذين عاينوا نهاية الاتحاد السوفياتي - أن الاستقلال الأوكراني لن يستمر طويلاً، وأنه مع مرور الوقت، سوف تتوسل أوكرانيا للعودة إلى روسيا. إلا أن ذلك لم يحدث. فعلى الرغم من أن بعض الأوكرانيين ظلوا تحت هيمنة الثقافة الروسية، فإنهم سياسياً اتجهوا بأنظارهم نحو الغرب، مثلما أظهرت الثورة البرتقالية عام 2004، عندما احتج ملايين الأوكرانيين على تزوير الانتخابات.
لذلك اضطر بوتين لتغيير المسار. وبعد فترة وجيزة من الحرب في جورجيا عام 2008، التي سيطر فيها الكرملين على منطقتين جورجيتين، وضع بوتين استراتيجية جديدة لأوكرانيا. وتبعاً لهذه الاستراتيجية، فإن أي خطوات قد تتخذها كييف في اتجاه الغرب ستعاقب بالعدوان العسكري. وكان الهدف فصل شرق أوكرانيا الناطق باللغة الروسية، وتحويل بقية البلاد إلى دولة تابعة يرأسها من يبدو كدمية في يد الكرملين.
في ذلك الوقت، بدا الأمر خيالياً ومثيراً للضحك، ولم يرد بذهن أحد أنه يمكن أن يصبح حقيقياً. ومع ذلك، نجد أنه بحلول الأسابيع الأخيرة من الثورة الأوكرانية عام 2014، التي طالب خلالها الأوكرانيون بوضع حد للفساد واحتضان الغرب، أصبح من الواضح بشكل مروع أن روسيا عازمة على العدوان والاجتياح. وقد ثبت ذلك بالفعل، ففي عملية سريعة، استولى بوتين على شبه جزيرة القرم وأجزاء من دونباس. ومع ذلك، جرى إحباط مخططه في صورته الكاملة، الأمر الذي يعود إلى حد كبير إلى المقاومة التي أطلقها المتطوعون في شرق البلاد.
الواضح هنا أن بوتين أخطأ في التقدير من ناحيتين؛ أولاً أنه كان يأمل، مثلما كان الحال مع حربه ضد جورجيا، أن يلتزم الغرب الهدوء تجاه عدوانه على أوكرانيا. لذلك، لم يكن الرد الموحد من الغرب أمراً توقعه. ثانياً نظراً لأن الروس والأوكرانيين كانوا أمة واحدة في ذهنه، فقد اعتقد بوتين أن القوات الروسية بالكاد تحتاج إلى دخول أوكرانيا لتستقبل بالورود - الأمر الذي لم يتحقق هو الآخر.
وأكد ما حدث في أوكرانيا عام 2014 ما ظل المؤرخون الأوكرانيون الليبراليون يرددونه لفترة طويلة: إن الفرق الرئيسي بين الأوكرانيين والروس لا يكمن في اللغة أو الدين أو الثقافة - فهم قريبون بعضهم من بعض نسبياً على هذه الأصعدة - وإنما في التقاليد السياسية. ببساطة، يكاد يكون من المستحيل انتصار ثورة ديمقراطية في روسيا، بينما ظهور حكومة سلطوية قابلة للحياة في أوكرانيا يكاد يكون مستحيلاً.
أما السبب وراء هذا الاختلاف، فتاريخي، ذلك أنه حتى نهاية الحرب العالمية الأولى (وفي حالة غرب أوكرانيا، نهاية الحرب العالمية الثانية)، كانت الأراضي الأوكرانية تحت التأثير السياسي والثقافي القوي لبولندا. ولم يكن هذا التأثير بولندياً على وجه الخصوص، وإنما كان تأثيراً غربياً. وكما قال البروفسور بجامعة هارفارد، إيهور سيفسينكو، كان الغرب في أوكرانيا يرتدي الزي البولندي. ولعبت أفكار تقييد السلطة المركزية، ووجود مجتمع مدني منظم وبعض من حرية التجمع، دوراً محورياً في هذا التأثير.
* خدمة “نيويورك تايمز”