الرئيسة \  تقارير  \  هل سيقضِي بوتين على الاقتصاد العالمي؟

هل سيقضِي بوتين على الاقتصاد العالمي؟

11.04.2022
بول كروجمان


“خدمة نيويورك تايمز” - بول كروجمان -ترجمة خاصة بجريدة عمان
ترجمة قاسم مكي -
الاحد 10/4/2022
دائما ما يبحث المعلقون الاقتصاديون عن مماثلات (مقارنات) تاريخية والسبب وجيه. مثلا أولئك الذين درسوا الأزمات المصرفية السابقة كان لديهم فهم أفضل لما حدث في عام 2008 من أولئك الذين لم يدرسوها. لكن هنالك دائما هذا السؤال وهو: أية مماثلة يختارونها؟
الآن العديد من الناس يعودون بالذاكرة إلى التضخم الركودي في أعوام السبعينات. لقد جادلتُ كثيرا بأن هذه المقارنة سيئة. فتضخُّمنا الحالي يبدو مختلفا عما شاهدناه في عامي 1979 و1980. وربما سينتهي بسهولة أكثر.
لكن هنالك على أية حال أسباب معقولة للخشية من أننا نشهد تكرارا للوضع الاقتصادي في 1914. إنه ذلك العام الذي أنهى ما يدعوه الاقتصاديون “أول موجات العولمة”. كانت تلك العولمة توسعا شاسعا لتجارة العالم أتاحته خطوط السكك الحديدية والبواخر وأسلاك التلغراف.
في كتابه الصادر عام 1919 تحت عنوان” النتائج السياسية للسلام” أشار جون مينارد كينز الذي سيعلِّمنا لاحقا كيف نفهم حالات الركود إلى ما اعتبره عن حق نهاية حقبة أو ما أسماها “مرحلة استثنائية في تاريخ تقدم الإنسان”.
كتب كينز عشية الحرب العالمية الأولى أن المقيم في لندن يمكنه بسهولة طلب “منتجات مختلفة من كل أنحاء الأرض بالكميات التي تناسبه. ومن المعقول أن يتوقع توصيلها مبكرا إلى عتبة باب بيته”.
لكن لم يستمر ذلك بفضل “مشروعات وسياسة النزعة العسكرية والإمبريالية والتنافسات العرقية والثقافية”. هل يبدو هذا مألوفا؟
كان كينز محقَّا حين رأى في الحرب العالمية الأولى نهاية حقبة للاقتصاد العالمي. إذا أخذنا مثالا واحدا ملائما بوضوح سنجد أن الإمبراطورية الروسية كانت عام 1913 مُصدِّرا ضخما للقمح. لكن ستتعاقب ثلاثة أجيال قبل أن تستأنف بعض الجمهوريات السوفييتية السابقة ذلك الدور.
لم تبدأ الموجة الثانية للعولمة بسلاسل توريدها المنتشرة في العالم والتي صارت ممكنة بفضل استخدام الحاويات والاتصالات اللاسلكية فعلا إلا حوالي عام 1990. إذن هل نحن على وشك أن نشهد تفكيكا ثانيا للعولمة. الإجابة ربما نعم. وفي حين توجد جوانب سلبية ومهمة للعولمة التي عرفناها إلا أنه ستكون هنالك عواقب أسوأ إذا شاهدنا، كما أخشى أنا وآخرون عديدون، تراجعا كبيرا في تجارة العالم.
لماذا تتضرر التجارة العالمية؟ بالطبع يعني غزو بوتين الفاشل لأوكرانيا نهاية للصادرات من ذلك البلد. وربما وقفا للكثير من مبيعات روسيا أيضا.
ليس واضحا تماما إلى أي حدِّ تقلصت صادرات روسيا من النفط والغاز الطبيعي. فأوروبا لم تكن متحمسة لفرض عقوبات على وارداتها من المنتجات التي سمحت لنفسها في عدم مبالاة بالاعتماد عليها. لكن الاتحاد الأوروبي يتحرك لإنهاء ذلك الاعتماد.
الأمر لا يقف عند هذا الحد. ربما لم يكن المرء يتوقع أن يكون لحرب بوتين أثر كبير على إنتاج السيارات. لكن السيارات الحديثة تحتوي على الكثير من توصيلات الأسلاك بما في ذلك أجزاء متخصصة منها تدعى مجموعة الأسلاك الكهربائية. ويتضح أن العديد من أسلاك أوروبا يجري تصنيعها في أوكرانيا. وإذا أدهشكم ذلك فإن معظم هذه الأسلاك التي تستخدمها الولايات المتحدة تستورد من المكسيك.
رغما عن ذلك ربما لن يكون قرار روسيا بتحويل نفسها إلى منبوذ دولي كافيا في حد ذاته لكي يقلص بحدة من تجارة العالم كما يمكن أن تفعل ذلك الصين التي تلعب دورا رئيسيا في العديد من سلاسل التوريد إذا قررت أن تنطوي على نفسها. لكن في حين لم يُلهِم اعتداء روسيا على أوكرانيا الصينَ بغزو أي بلد آخر (حتى الآن) إلا أن هنالك متاعب على هذه الجبهة أيضا.
ما هو أكثر راهنية أن تعامل الصين مع كوفيد والذي كان ناجحا إلى حد بعيد في المراحل الأولى للجائحة يتحول باطراد إلى مصدر اضطراب اقتصادي.
لا تزال الحكومة مصرَّة على استخدام لقاحات محلية ليست ناجعة تماما. ولم تزل تستجيب لحالات تفشى الجائحة بالإغلاقات القاسية التي تتسبب في مشاكل ليس للصين فقط ولكن لباقي العالم أيضا.
فيما وراء ذلك ما علَّمنا إياه بوتين أن البلدان التي يقودها رجال أقوياء ويحيطون أنفسهم بمن يوافقونهم دائما ليسوا شركاء تجاريين موثوقين.
المواجهة الصينية مع الغرب سواء كانت اقتصادية أو عسكرية غير عقلانية إلى حد بعيد. لكن غزو روسيا لأوكرانيا كان أيضا كذلك. ومما له دلالة أن حرب أوكرانيا قادت كما يبدو إلى هروب واسع النطاق لرأس المال من الصين.
لذلك إذا كنتَ من قادة الأعمال الآن فمن المؤكد أن تتساءل إذا ما كان من الفطنة رهن شركتك لفرضية أنك ستظل قادرا على شراء ما تحتاجه من بلدان استبدادية. قد ترفع إعادة عمليات الإنتاج للبلدان التي تؤمن بحكم القانون التكلفة بنقاط مئوية قليلة. لكن ربما يكون السعر مجزيا نظرا للاستقرار الذي يجلبه.
إذا نحن على وشك أن نرى تراجعا جزئيا عن العولمة. هل سيكون ذلك شيئا سيئا؟ ستكون الاقتصادات الغنية والمتقدمة أفقر بقدر طفيف مما لو كان الأمر بخلاف ذلك. لقد تمكنت بريطانيا من الاستمرار في النمو بالرغم من التدهور في تجارة العالم بعد عام 1913.
لكنني قلق من أثر ذلك على البلدان التي حققت تقدما في العقود الأخيرة غير أنها ستكون فقيرة للغاية وبدون منفَذ لأسواق العالم. هي بلدان مثل بنجلاديش التي اعتمدت إنجازاتها الاقتصادية بشكل حاسم على صادرات الملبوسات.
لسوء الحظ نحن نتعلم مجددا دروس الحرب العالمية الأولى. ففوائد العولمة عُرضة دائما لمهددات الحرب وأمزجة الطغاة. ولجعل العالم ثريَّا دائما، نحن بحاجة إلى جعله أكثر أمنا.

*بول كروجمان اقتصادي أمريكي وأستاذ الاقتصاد في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك وحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2008.