الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هل صدمت الشاحنة ضمير أوروبا؟

هل صدمت الشاحنة ضمير أوروبا؟

07.09.2015
غازي دحمان



المستقبل
الاحد 6/9/2015
لماذا وضع اللاجئون أنفسهم وسط خزان الموت الذي عبر بهم من وسط انشغالاتنا بيومياتنا وعادياتنا؟ وكيف لم نسمعهم وهم يدقون الخزان؟ ألهذه الدرجة افتقدنا نحن حساسية سماع أصوات الألم ورائحة الموت؟ هل لأننا لم نعترف بجرحهم ونكبتهم، أم أنهم لا يثقون بنا وبآدميتنا؟ بالتأكيد نحن لسنا كذلك ونرفض أن نكون على هذه الشاكلة، وإن كان ساستنا حذرين ومتناقضين وغير حاسمين وغارقين في البيروقراطية.
هذه كانت الكلمات "الصرخات" والتفسيرات التي تقع في خلفيات لافتات أهالي فيينا الذين نزلوا إلى الشوارع، بما يذكّر "بالفزعات" التي قام بها أهالي أرياف درعا، لفك الحصار عن المدينة بدايات الثورة. نزل الفييناويون، ليس فقط من أجل الترحيب باللاجئين ومنع البوليس من إعادتهم إلى بودابست، ولكن ايضاَ من أجل أن يبعدوا عن انفسهم عار التسبب بموت اللاجئين؛ ومثلهم رفع الألمان رايات الترحيب في ملاعب كرة القدم، وهم يعرفون أنها أفضل وسيلة لإيصال رسالتهم إلى ما هو أبعد من الداخل الألماني.
عبر زمن مديد ومليء بالألم، شكلت المقتلة السورية واحدة من أكثر القضايا المهمشة في العالم، وساهم هذا الامر بتفاقمها بدرجة كبيرة ووصولها إلى الحدود الذي وصلت إليه من دموية وشراسة. ففي حين كانت ألة القتل نظام الاسد وحلفائه الروس والإيرانيين، تتغذى بدرجة كبيرة من هذا التهميش، لدرجة أنها تصوّرت أن ما تقوم به صحيح وشرعي، بدليل عدم اعتراض الرأي العام العالمي عليه، فقد شكلت حالات التطرف المقابلة نمطاً احتجاجياً على هذا التهميش وراحت تبتدع أشكالاً وانماطاً مختلفة من العنف لإيصال رسالتها الغاضبة من العالم الصامت. وفي النتيجة فإن تلك المنظومتين غرقتا في الدم السوري الذي صار صندوق بريد لإيصال الرسائل للعالم الخارجي.
في مقابل ذلك ابتدع العالم الخارجي معادلة تنطوي على تبسيط مُخلّ، مفادها أن ما يحصل ليس سوى قتال مسلمين ضد، مسلمين ولا علاقة لنا بالأمر، بالأصل نحن لا نفهم هذا النمط من الصراعات الذي يقتل الجميع فيه الجميع، وبالتالي فمن الأفضل عدم الانحياز لأي من الطرفين، خاصة وأن المقتلة تحصل على بعد زمن قصير من حوادث قتل قام بها مسلمون في أوروبا والغرب بذريعة مقاومة التدخل الغربي في شؤون المسلمين.
على ذلك وبطريقة غير متوقعة، صمّ الغرب عيونه وآذانه عن اكبر كارثة إنسانية حصلت بعد الحرب العالمية الثانية؛ تواطأ الإعلام والنخب السياسية في تقديم صورة ملتبسة حول الوضع في سوريا، كان الهدف رغبة تلك الدوائر في إراحة رأسها من اتخاذ مواقف تؤثر في حسابات دولها السياسية والأمنية والاقتصادية، وترتب عليها التزامات هي غير مستعدة لاستحقاقاتها. وقد عبّر البرلمان البريطاني عن هذا الأمر بوضوح عندما رفض مشاركة القوات البريطانية في أي نشاط أو مجهود حربي ضد نظام الأسد بعد جريمة الكيماوي في سوريا.
لم يتسنّ للمجتمعات الغربية التقاط صورة مخالفة لتصوّراتها النمطية عن المجتمعات الإسلامية الفوضوية والمختلفة في طريقة التفكير ونمط الحياة. والأرجح أن تلك المجتمعات ارتاحت لتلك الصورة؛ ذلك أن المجتمعات الأوروبية الغارقة في لجّج أزمة اقتصادية خانقة، لم يكن لديها رفاهية إعادة ترتيب اهتماماتها وانشغالاتها، وكانت منهمكة بمراقبة أسواق الأسهم والبورصات لتطمئن على رفاهيتها، وربما معيشتها بحدودها الأساسية في بعض القطاعات، أكثر من اهتمامها بأخبار حروب العالم القابع خلف البحار.
لكن هذه الحركة الوليدة في أوروبا والتي عبرت عن نفسها في محطات القطار النمسوية وملاعب كرة القدم الألمانية تشي بمتغير جديد، صحيح أنها حتى اللحظة تنحصر فعالياتها وتعبيراتها في إطار التعاطف مع اللاجئين الواصلين إلى البر الأوروبي، ولكن المأمول ان تتسع هذه الحركة لتصل إلى معرفة جذور الازمة الحقيقية وتشكل رأياً عاماً ضاغطاً على حكومات الغرب التي يتسابق مسؤولوها على كسب ود طهران ومراعاة مشاعر قادة الكرملين. فمن غير المعقول أن يتسبب هؤلاء بكل تلك الكارثة للملايين من الشعب السوري من دون أن أدنى إحساس بالمسؤولية.
في التاريخ المعاصر، عاشت أوروبا ولا تزال تحت وطأة الإحساس بتأنيب الضمير تجاه ما حصل لليهود في الهولوكوست، وعاهدوا انفسهم بوقف كل ما يمكن أن يساهم بتكرار تلك المأساة. وقعت هذه المأساة في سوريا وما حصل في الشاحنة الهنغارية لم يكن سوى صورة مصغرة لبلد يختنق، لذا لن يفيد أوروبا والغرب، الأسف دائما بعد وقوع الكارثة واكتمال أركانها. فهل ما بعد حادثة الشاحنة سيكون غير ما قبلها أوروبياً؛ هل تتفاعل القضية إلى الحد الذي يغير تماما توجهات الحالة السورية وينهي قطب الكارثة فيها المتمثل بمنظومة الأسد وحلفائها من الإيرانيين والروس؟ نتمنى أن لا تنتهي حادثة الشاحنة بإضاءة الشموع على أرواح القتلى، بل تشكل فرصة لتسليط الضوء على كارثة السوريين بمجملهم.