الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هل قرّر الغرب "تسكين" الشّرق الأوسط؟ 

هل قرّر الغرب "تسكين" الشّرق الأوسط؟ 

12.06.2021
د. خالد باطرفي


النهار العربي
الخميس 10/6/2021 
تتبدى هذه الأيام ملامح حملة مصالحة وسلام في منطقة الشرق الأوسط. وكأنما قررت القوى الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، أنه آن الأوان لإقفال الملفات العالقة، وإطفاء الحرائق، وترتيب البيت الشرق - أوسطي تمهيداً لخروج تاريخي. وهكذا لا يترك الراحلون فراغاً أمنياً يستغله المنافسون وينفذون منه الى مناطق نفوذ ومصالح تبقى، برغم انخفاض سقفها، هامة، من نفط وغاز، الى مصالح استراتيجية وتجارية.   
من بوش الى أوباما 
هذه الحملة تأتي نقيضاً لحملات سابقة كان الهدف منها هدم المنطقة وإعادة بنائها على أسس وتوافقات وقواعد نظام دولي جديد. فبعد حوادث أيلول (سبتمبر) 2001، قرر المحافظون الجدد في إدارة الرئيس جورج بوش الابن تفجير الأوضاع في بلدان مستقرة، بهدف إعادة رسم حدودها وتقسيمها وتسليمها الى جيل جديد يدين بالولاء للولايات المتحدة، ويعمل بنظام حكمها، ويسمح بإقامة قواعد عسكرية، وتسليم الموارد الطبيعية. وبدأ هذا المشروع في العراق، ولو نجح لاستمر المد الى دول الخليج ومصر وشمال أفريقيا.  
كارثة المستنقع العراقي أفشلت المشروع برمّته، وخرجت الإدارة التي تبنته، وجاءت إدارة الرئيس باراك أوباما عام 2008 بمشروع جديد "الربيع العربي"، يقوم على تفوير الشعوب باسم الديموقراطية والحرية، العدالة والتنمية، النهضة والبناء. وأوكل المشروع الى مقاول محلي قبل بكل المواصفات والمقاييس، وتعهد حماية إسرائيل والمصالح الأميركية، يتمثل في "الإخوان المسلمين". كما أوكل الى تركيا، بأنموذجها التنموي والديموقراطي الناجح وقتها، قيادة هذا المشروع النهضوي والإشراف على تنفيذه.  
إفشال المخطّط 
ولتحييد إيران واسترضائها، سمح لها بالهيمنة في العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن. والتوغل في أفريقيا من بوابة السودان، وفي شرق آسيا من بوابة إندونيسيا. مع رفع العقوبات الاقتصادية عنها مقابل تأجيل مشروعها النووي عشر سنوات، وعدم التعدي على إسرائيل، وتأمين مصالح الغرب في الخليج.   
نجاح الخطة كان سيسمح لأميركا بالانسحاب من العراق والخليج والتفرغ لمشاريعها الجديدة في شرق آسيا، وتصديها للتنين الصيني القادم. إلا أن العرب بقيادة السعودية والإمارات، وتعاون الجيش المصري، أفشلوا هذا المخطط، وانقلب السحر على الساحر، فدخلت روسيا، وتورطت تركيا وإيران، وعادت مصر الى موقعها الرائد والقائد بعد إسقاط حكومة الإخوان. ونجح المثلث المصري السعودي الإماراتي في مواجهة التغول التركي في ليبيا والإيراني في اليمن، وإخراجها من السودان. فيما حجمت روسيا الهيمنة الإيرانية في سوريا. وعادت إسرائيل الى موقعها التقليدي التصادمي مع محيطها.  
صفقات ترامب 
ثم جاء الرئيس رونالد ترامب في 2016 برؤية جديدة تراعي المستجدات الراهنة. فأميركا لم تعد بحاجة ماسة لنفط الخليج بعد اكتفائها من النفط الصخري، والاتفاق النووي فشل في وقف مشروع إيران المهدد لإسرائيل وأوروبا، وشجع سياساتها المزعزة للسلام والاستقرار في المنطقة، ووصل إرهابها وتداعياته من تهريب المخدرات الى غسيل الأموال الى أزمة اللاجئين الى أبواب الغرب.  
ولذلك عادت أميركا الى مواجهة الوحش الإيراني بتجويعه، والدب الروسي والثور التركي بتوريطهما في مغامرات عسكرية تسنزف مواردهما وتستجلب العقوبات الاقتصادية الغربية عليهما، والتنين الصيني بمحاصرته ومعاقبته ومواجهته. كما عملت على إغلاق الملف الأقدم في المنطقة بالقفز على عقدة المصالحة الإسرائيلية الفلسطينية، الى التطبيع العربي المباشر، بهدف فرض الحل من الخارج العربي على الداخل الفلسطيني.   
وبرغم أن الاستراتيجية نجحت في التضييق على الأعداء، إلا أنها لم تحقق نجاحاً كاملاً، ربما لضيق الوقت، فما سُرق أو هُدم في عقود لا يمكن أن يستعاد أو يُبنى في سنوات. وبقي الأميركي معلقاً بين سماء الشرق الأوسط الكبير وأرضه، من أفغانستان الى ليبيا، ومن سوريا الى اليمن.  
وفيما نجح في تطبيع علاقات أربع دول عربية (الإمارات والبحرين والمغرب والسودان) مع الكيان الصهيوني، إلا أنه فشل في استقطاب الدولة الأهم، السعودية، وفرض صفقة القرن، وإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وإنقاذ لبنان، وتحرير سوريا، والقضاء الكامل على مشكلتي الإرهاب واللاجئين.  
موازنات بايدن 
واليوم تقود السياسة الأميركية الحاجة الملحة للخروج الآمن من منطقة الأزمات الأولى في العالم، مع الحفاظ على مصالحها وقفل الباب أمام الطامعين في الاستيلاء على مقاعدها. والاستراتيجية هذه المرة تتمثل في تكثيف الجهود لنزع الألغام وإنهاء "الحروب التي لا تنتهي".  
ومع خروج تركيا أوردغان والإخوان من قائمة الوكلاء الأكفياء، وتمترس روسيا في سوريا وليبيا، وهيمنة إيران على بلاد الرافدين، لم يعد أمام الإدارة الأميركية بد من حماية علاقاتها التقليدية بالخليج ومصر، وإنهاء الصراعات في اليمن وغزة وليبيا، وإعادة الاتفاق النووي بشروط أفضل، ودعم المصالحة الخليجية والعربية - الإيرانية، وتثبيت الحضور الغربي في البحر الأحمر والخليج العربي. مع إعطاء قدرات أكبر ومساحة أوسع لدول المنطقة لحماية أمنها، بما يغنيها عن اللجوء الى الصين وروسيا. ولعل أكثر المستفيدين من توجه كهذا هو الدول الأكثر تضرراً من صراعات الكبار، اليمن ولبنان.  
بهذه المقاربة، ترى أميركا أنها ستتمكن من تأمين الشرق وإعادة توزيع قواتها والتفرغ لمواجهة الصين، اقتصادياً وسياسياً، وربما عسكرياً إذا لزم الأمر.  
هل ينجح المشروع؟ 
الخطة تبدو قابلة للتطبيق، إذا تعاون اللاعبون الأساسيون فيها. فالميادرة السعودية التي تتبناها الأمم المتحدة وأميركا للسلام في اليمن لا تزال، برغم حملة الضغط المكثفة على الحوثيين، تواجه رفضاً مستميتاً وتصعيداً عسكرياً عالياً في الداخل اليمني وضد السعودية. والوفد الإيراني في فيينا عاد الى طهران للتشاور مع المرشد الأعلى، والحاكم الأوحد، آية الله علي خامئني، حول التعديلات المطلوبة، وأهمها تغيير سلوكيات إيران التخريبية وأنشطتها الإرهابية، وهو أمر بعيد المنال.  
وحرب غزة التي نجحت إدارة بايدن في إيقافها لا تزال في حال هدنة لم تصل بعد الى وقف دائم للنار، فضلاً عن اتفاقية سلام. ومسار المصالحة والسلام في ليبيا لا يزال محاصراً بالميليشيات المحلية والدولية والتدخلات الأجنبية السافرة. إضافة الى الخلافات الداخلية المناطقية والعشائرية والحزبية على السلطة. وفيما تسير المصالحة التركية المصرية بخطوات بطيئة واثقة، تراجعت الآمال في مصالحة تركية خليجية موازية وداعمة لخط القاهرة - أنقرة. 
عقدة الصّين 
ما زلنا في بداية المشروع الأميركي الجديد، والذي برغم تسرعه وتهافته على الخط  الإيراني، إلا أنه على الأقل بعيد عن مؤامرات التدمير والتقسيم على الخط العربي، وميال الى المصالحة والسلام الشامل. وهذا في حد ذاته تطور إيجابي للرؤية الأميركية لمستقبل الشرق الأوسط.   
وفي الوقت نفسه، ستبقى الصين المحرك الأقوى لمشاريع أميركا في المنطقة، فالقوة العسكرية المليونية أصبحت مدعومة بأساطيل بحرية ضاربة، وتقنية وصلت إنجازاتها الى المريخ، فيما يواصل الاقتصاد الصيني تسارعه في الوقت الذي أبطأ فيروس كورونا منافسيه. ومن المتوقع أن يتجاوز الدخل القومي خلال ثماني سنوات الاقتصاد الأميركي لأول مرة في التاريخ. كما يواصل مشروع درب الحرير البري والبحري تقدمه في آسيا بطريقه الى أوروبا، فيما يبدو حلم الاستيلاء على تايوان أقرب الى التحقيق من أي وقت مضى. ولم تخرج كوريا الشمالية بعد من تحت مخالب بكين، ولا تزال بعد كل المحاولات الديموقراطية والجمهورية الأميركية منذ أول تفجير نووي وأول صاروخ عابر للقارات مستعصية على السيطرة. 
الساعة تدق .. والوقت ينفد .. وأميركا تكاد تكون وحدها في مواجهة أكبر تحد لها منذ انهيار سور برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة. فهل ينجح بايدن في ما فشل فيه غيره؟ الخروج الآمن من محرقة الشرق الأوسط الكبرى بعد إطفائها والتفرغ للمواجهة الكبرى هو الباب الأول، وربما الوحيد!