الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هل من موجة جديدة تعيد الثورة لأبنائها؟

هل من موجة جديدة تعيد الثورة لأبنائها؟

23.06.2013
عمر قدور

المستقبل
الاحد 23/6/2013
لسنا بخير. هذا ما يمكن أن يقوله الكثيرون من السوريين المعنيين بالثورة الآن، وكلٌّ من موقعه. هذا أيضاً ما يقوله سوريون يدّعون انتسابهم للثورة ويصبّون جهدهم للتبرم والانقضاض على كل شاردة وواردة فيها تحت ستار النقد من دون تقديم جهد، ولو ضئيل، لمواجهة النظام. لسنا بخير. هذه المرة لا لأن نصف السوريين بين منفي في الداخل ومنفي في الخارج، ولا لأن الذين في الداخل معرّضون لأقسى حالات الحصار والاستنزاف، ناهيك عن القتل. لا لأن وزير إعلام النظام أعلنها صراحة قبل ثلاثة أيام وقال إن النظام سيقاتل حتى آخر سوري، ولا لأن العون الذي يُلوَّح به للسوريين أقل بكثير من التصريحات الطنانة. لسنا بخير، لأننا نحن لم نعد ما كنا عليه قبل سنتين، ومن المرجح ألا نعود كأفراد إلى الحال الذي كنا عليه من قبل.
لسنا بخير، أولاً لأن طول مدة الثورة لا بد أن ينعكس سلباً على الآمال المعلقة عليها، وبالتأكيد يزداد الحال سوءاً مع مسلسل الإبادة والتدمير اليوميين، لكن خيبة الأمل وحدها لا تفسّر العديد من الظواهر المَرَضية المتفشية في صفوف المعارضة السياسية، وفي صفوف من يعدّون أنفسهم نخبة ثقافية، وبخاصة لا تفسّر الانقضاض الذي يقوم به البعض على الثورة ذاتها. لا يكفي هنا أن نأخذ ردود الأفعال على محمل جلد الذات أو الانتقام منها بداعي الفشل، فالجلد عندما يُوجّه غالباً إلى الآخرين ليبرّئ الذات يصبّ مباشرة في عقلية النظام التي انتفض ضدها السوريون، وعندما تأتي ردود الأفعال هذه لتنقض على الثورة فهي تخدم النظام سياسياً بلا مواربة، أي أن أصحابها يقومون بفعلهم بوعي تام يتضح من خلال إلحاحهم عليه وتكراره طوال الوقت.
منذ البداية قال الكثير من النشطاء إن النقد جزء من الثورة، ومن دونه لن تكون نقيضاً للنظام. ذلك كان يعني اكتساب المعرفة والأدوات النقديتين والارتقاء بهما لمواكبة تطورات الواقع الميداني، وذلك يتطلب أيضاً قيادات تصغي إلى النقد وتعرّض أداءها له طوال الوقت، مع الرغبة الجادة في تحسين أدائها أو الانسحاب في حال الفشل. لم يحدث ذلك، ويمكن القول بأسف إن تسلل النظام إلى الثورة بات جلياً وينهكها بثقله، بل ويهددها جدياً ما لم تتحرك المياه الراكدة وتعود إلى مجراها الأصل.
ربما صار السؤال ملحاً عما "اكتسبته" الثورة من النظام بخلاف المكاسب التي يجري التحدث عنها عادة، وربما أصبح ملحاً الحديث عن أولئك الذين أتوا إلى الثورة محملين بسيئات النظام ذاتها، ولن يتوانوا عن فرضها عليها ليغدو الأمر مجرد استبدال لأشخاص بآخرين، أو حتى مجرد الموافقة على تحسينات شكلية في النظام لا تطاول بنيته. لا ينبغي الخجل من مواجهة الواقع كما هو، فبعض من يدّعون الانتساب إلى الثورة لا يحملون من أخلاقياتها المفترضة ولو قليلاً؛ بعضهم كان شريكاً تجارياً معروفاً لشخصيات أمنية في النظام، ومن المرجح في ظل ما نعرفه أن شراكته لا تبتعد عن الفساد الذي يعرفه عموم السوريين. بعضهم الآخر كان معروفاً بعلاقته الشخصية الوطيدة مع ضباط معروفين في المخابرات، وبعضهم يشهد له تاريخه كمُخبر صغير لتلك الأجهزة. العبرة في الحالتين ليست في المحاسبة على الماضي، وإنما في حاضر أولئك الذين جلبوا إرثهم الشخصي إلى الثورة، وقسم منها لا يخفي تعطشه للمناصب منذ الآن، ولا يفهم التغيير إلا بوصفه تحقيقاً لمكاسب أعلى من الفتات الذي حصل عليه من النظام.
لا يُستبعد أن يكون بعض هؤلاء على صلة وثيقة حتى الآن بأسيادهم السابقين، ولا يُستبعد منهم مدّ أسيادهم بتقارير عن الناشطين، ولا يُستبعد أن الدور المناط بهم أصلاً هو التغلغل في الثورة لتخريبها. هؤلاء لا يقربون الثورة بوصفها ثورة شعب إلا عند الضرورة القصوى للكلام، أما جل همهم فينصبّ على مؤسسات الثورة والإجهاز عليها أو التسلط عليها إن أمكنهم ذلك؛ هم لا يرون سوى السلطة أصلاً أينما حلوا وارتحلوا. "نخب" ثقافية ترعرعت في مؤسسات النظام، وتشرّبت بممارساتها، وتشرّبت بخاصة بأساليب الدسائس والمؤامرات من أجل الحصول على الفتات، جلّ همها القضاء على الثقافة السورية الأخرى لأن فعلاً ثقافياً جاداً سيفضح دورها السابق ويهدد بشكل جدي نمطاً ثقافياً اعتاشت عليه.
نعم، لسنا بخير، لأن الكثيرين يسعون بكل ما أوتوا من عزم لوضع الثورة على السكة نفسها التي يسلكها النظام. لا يحدث هذا لأن النظام نخر في عقولهم ولا يستطيعون التخلص منه فحسب، بل لأنهم يقصدون جادين تلك الخلاصة التي تنصّ على أن لا أحد أفضل من الآخر وأن النظام والثورة متساويان أخلاقياً، وبالتالي يسقط حق السوريين بالمطالبة بحقوقهم، وتسقط أحقيتهم كشعب؛ أحقيتهم المطلقة تجاه أية سلطة وأي نظام. سنضع أنفسنا في موقع الغفلة إن نظرنا إلى هذا النمط من السلوك على أنه مجرد تناذر عارض من الآثار المديدة للديكتاتورية، فتراكم سلوكيات مماثلة، والإصرار عليها، لا يتوسل الجزئيات أو اختراعها وتلفيقها لغاية صغيرة أو مكسب شخصي؛ إنه النظام بثورته المضادة، وبفلوله الذين أودعهم في جسد الثورة الحالية منذ البداية.
هؤلاء لا يريدون النصر، وتراهم عندما تتقدم الثورة قليلاً يبدؤون بالزعيق والعويل مركزين على أخطائها، وفقط عندما يتأذى المدنيون عقاباً لتقدم الثورة يصبح لهم قيمة. هذا أيضاً ليس عفوياً، وليس بعيداً عن الحسابات الشخصية بالضرورة، فانتصار الثورة قد يكشف الملفات السرية الكاملة لحقبة النظام، وهو كما يعلم السوريون سيكشف عن التعاملات القذرة السابقة، وإذا كان موظفو النظام يقومون بدورهم علناً فإن مَن يقومون بأدوارهم سراً هم الذين سيفتضح أمرهم ساعتئذ، ومرة أخرى سيفتضح دورهم الحالي الذي ستكملون به مسيرتهم السابقة.
للأسباب السابقة، وغيرها كثير، لسنا بخير. وقد يكون أول ما ينبغي إعادة الاعتبار إليه، الآن ودائماً، هو حق السوريين بالحرية والديمقراطية، وهو حق لا يسقط بالتقادم أو بممارسات من يرون أنفسهم أوصياء على الثورة والشعب. الأمر الآخر الذي لا يقل أهمية هو أن الحراك الثوري لم يتح له أن يفرز قياداته الحقيقية ضمن ظروف صحية، وأغلب المنخرطين فيه مشغولون بالعمل الميداني، ما يجعل أية صفة تمثيلية للحراك مرهونة فقط بتمثيل تطلعاته وبالحفاظ على القيم المشتركة للحراك السوري ككل.
قد يحتاج الأمر موجة جديدة تعيد الثورة لأبنائها، وهي مهمة غير سهلة كما كل المهمات المناطة بها، لكن من الأفضل مواجهة هذا الاستحقاق بدلاً من مواجهة النظام وفي الثورة شيء منه. لا نتوهم في خطوة كهذه، أو نتوسل، النقاء. الأمر يتعلق بالتخلص من ودائع النظام المؤثرة على سير الحراك، أشخاصاً وممارسة، بحيث لا يكونون في موقع المسؤولية المباشرة، أو في موقع مخادع للآخرين، فصورة الثورة تأذت كثيراً حتى الآن، وفي الأساس يحق لأصحابها الفعليين أن يمثلوا أنفسهم وأن يوصلوا صوتهم بلا وصاية من أحد، ولن يكونوا أيضاً بمنأى عن النقد، لكنهم على الأقل سيسترجعونها من أيدي الانتهازيين وممثلي النظام على أكثر من وجه.
موجة جديدة، ربما باتت ضرورية لئلا تتشتت الجهود في خضم الأمواج الارتدادية، تماماً بالمعنى السلبي للوصف.