الرئيسة \  تقارير  \  هل يحتاج الفلسطينيون إلى انتفاضتين كي تستمر الحياة؟

هل يحتاج الفلسطينيون إلى انتفاضتين كي تستمر الحياة؟

05.10.2022
توفيق رباحي


 توفيق رباحي
القدس العربي
الثلاثاء 4/10/2022
خلال الأسبوعين الماضيين نشرت وسائل إعلام دولية تحقيقات من جنين وبعض مدن الضفة الغربية الأخرى تُحذّر من احتمال اشتعال انتفاضة مسلحة جديدة خارج سيطرة التنظيمات الفلسطينية التقليدية.
قرأتُ تحقيقات من هذا النوع، متشابهة جدا ومتزامنة، في أربع صحف كبرى: لوموند الفرنسية، الغارديان البريطانية، واشنطن بوست الأمريكية وموقع أوريون واحد وعشرون الفرنسي.
على الأغلب تمَّ هذا العمل الصحافي في إطار رحلة منظمة لمراسلين أجانب سمحت بها إسرائيل وبعدها الجهات الأمنية الفلسطينية والفصائل التابعة للتنظيمات السياسية الفلسطينية. وإلَّا من الصعب تصديق أن هؤلاء المراسلين التقوا جميعا هناك بمحض الصدفة، وأن هذه الصحف، والأرجح هناك غيرها، انتبهت فجأة لخطورة الوضع في الضفة الغربية وقررت إيفاد مراسلين في توقيت متقارب جدا.
اتفقت التحقيقات التي نشرتها الصحف الأربع على أن جيلا جديدا من الفلسطينيين في طور التكوين في مدن الضفة الغربية، خصوصا في المدن المكتظة والمشحونة بالغضب والإحباط وعلى رأسها جنين. يتشكل هذا الجيل، وفق مَن تحدثوا للمراسلين، حول ثلاثية الكفر بإسرائيل والسلطة الفلسطينية معًا، الإفلات من كل تنظيم هيكلي أو سيطرة سياسية، وأخيرا الإيمان بأن السلاح هو الحل الوحيد المتبقي.
كانت نقطة البداية العمليات الفردية التي نفذها مؤخرا شبان فلسطينيون في مقتبل العمر مثل إبراهيم النابلسي. وأجمعت المواد المنشورة على نقطتين تشكلان وصفة لأي انتفاضة مسلحة: الحياة هناك لم تعد تطاق، والسلاح متاح بوفرة.
باستثناء تحقيق موقع أوريون واحد وعشرون، المعروف بتعاطفه مع معاناة الفلسطينيين (يديره الصحافي الفرنسي المستعرب آلن غريش)، تميل المواد الأخرى المنشورة إلى اختزال الوضع في صعوبات حياتية كالبطالة والفقر والكبت وغياب آفاق اجتماعية وإنسانية. كما تميل إلى إلقاء اللوم على السلطة الفلسطينية وإخفاقاتها، وتكاد تخلو من تحميل إسرائيل أيّ مسؤولية عن الوضع المأساوي في المناطق التي تديرها هذه السلطة الكسيحة.
تبرئة إسرائيل في الإعلام الغربي وإلقاء العتب كله على الفلسطينيين أمر مألوف، لكنه يحمل نصيبا من الحقيقة. مسؤولية إسرائيل وجرائمها كبيرة لا جدال حولها، لكن السلطة الفلسطينية تتحمل نصيبا من المسؤولية في هذا الإحباط العام الذي غرق فيه الفلسطينيون داخل السجنَيْن الكبيرين اللذَين يُطلق عليهما الضفة وغزّة. السلطة مسؤولة مرتين، مرة بقبولها بالأدوار القذرة التي أوكلت إليها بموجب اتفاقيات أوسلو، وأخرى لأن آلام الفلسطينيين ومعاناتهم تفاقمت بسبب العجز المزمن لهذه السلطة.
 
القضية الفلسطينية ضحية فريدة من نوعها ومتعددة الأشكال. هي ضحية لكل الناس.. الذين آمنوا بها وتبنّوها، الذين تاجروا بها، الذين باعوها والذين حاربوها
 
الانتفاضة المقبلة، عندما تقوم، ستكون انتفاضتين، واحدة ضد السلطة الفلسطينية وأجهزتها القمعية، وأخرى ضد إسرائيل وإرهابها اليومي.
الحالة الفلسطينية يمثلها الرئيس محمود عباس وتجهّمه الدائم. يمثلها أيضا خطاب عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أسبوعين. عباس هو اللوحة التي تختزل بامتياز الحالة الفلسطينية. خطابه في نيويورك الموغل في الإحباط والخالي من أيّ أمل أو روح يقول الكثير.
ورغم ذلك سيشعر عباس، لو كُتب له عمر طويل، بأنه أفضل حالا من الذي سيخلفه في المنصب، لأن عباس هو آخر السياسيين الفلسطينيين في تلك المسؤولية المشؤومة. الذي سيأتي بعده سيكون من جيل مختلف، والأهم سيكون مجرد شرطي أو مندوب (بالمعنى الحقيقي للكلمة) لدى وزارة الأمن الداخلي الإسرائيلية برعاية أمريكية وعربية. مشكلته أنه، مثل عباس ولكن في ظروف أسوأ، سيفشل في أداء المهام المطلوبة منه وسيعجز عن الانسحاب من الموقع بسبب الإغراءات والإكراهات.
العمل السياسي الفلسطيني تأثر بشدّة، وأكثر من غيره، بالظروف الدولية والإقليمية وكذلك الداخلية وما حملته من تغييرات ضربته في الصميم. “الاتفاقيات الإبراهيمية” (المغرب والإمارات والبحرين من جهة وإسرائيل من جهة أخرى) كانت آخر مسمار في نعش القضية الفلسطينية، وآخر طلقة على جسم يحتضر. لذلك ليس من الخطأ القول إن المسار الفلسطيني، بالسلطة الوطنية والفصائل الأخرى المنافسة لها مثل حماس والجهاد، وصل إلى نهاية الطريق، أو اقترب، وبات بحاجة إلى مراجعة عميقة.
القضية الفلسطينية ضحية فريدة من نوعها ومتعددة الأشكال. هي ضحية لكل الناس.. الذين آمنوا بها وتبنّوها، الذين تاجروا بها، الذين باعوها والذين حاربوها. هي ضحية الفلسطينيين وضحية إسرائيل والعرب وأوروبا وأمريكا والعالم أجمع. هي ربما القضية الوحيدة بين شبيهاتها التي يمتلك الجيران والأقربون والسماسرة نصيبا فيها يعادل نصيب أصحابها. وأحيانا يتراجع هذا النصيب فلا تبقى لأصحاب القضية كلمة أو صوت، ورغم ذلك لا يملكون حق الاحتجاج على من خانهم وصادَر صوتهم.
هل بعد كل هذا يستغرب أحد نشوء جيل جديد يكفر بكل شيء إلا السلاح؟ أعتقد أن ولادة هذا الجيل تأخرت. وميلاده لن يكون سوى نتيجة طبيعية لمسار طويل من الخيبات والخيانات على أعلى المستويات. إنها عودة إلى نقطة البداية بعد ثلاثين سنة من الترقيع والكذب على الذات، وعلى الرغم من استحالة العودة إلى العمل المسلّح المنظم بل وصعوبة تسويق الفكرة أصلا. لكن ما البديل وإسرائيل تمارس كل هذا التنكيل المستمر على مرأى العالم أجمع ومسمعه؟ وما البديل والقادة العرب يتسابقون إلى بيع الفلسطينيين وخيانتهم؟
الفلسطينيون بحاجة إلى معجزة للخروج من الفخ الذين اقتيدوا إليه. عزاؤهم ربما أن لا أحد ممن حولهم سينعم بالأمن طالما لم ينعموا به.