الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هل يخفّف رفع الحصار من عبث طهران في الإقليم؟

هل يخفّف رفع الحصار من عبث طهران في الإقليم؟

18.01.2016
مصطفى كركوتي



الحياة
الاحد 17/1/2016
عبث إيران يعطّل كل شيء تقريباً في المنطقة، ويعرقل عجلة التقدّم فيها. هناك تغيّر جذري وعميق تشهده بنية المنطقة في شتى المجالات منذ انتحار بائع الخضار التونسي الشاب الراحل محمد بوعزيزي، أواخر 2010، وكان يمكنه أن يؤدي إلى نتائج إيجابية ملموسة لولا هذا العبث المستمر فيها على مدى سنوات خمسٍ مضت. عبث طهران السياسي والمجتمعي الفظ في خمس دول في المنطقة على الأقل لا يهدّد استقرارها فحسب، بل يخرِّب نسيجها المجتمعي الهش للمرة الأولى منذ سايكس - بيكو. وهذا واقعٌ يتناقض تماماً مع الآمال الواعدة التي أطلقتها الثورة الإيرانية في 1979 ضد حكم سلالة الشاهنشاه في سنواتها الأولى، وقبل استئثار المرشد الأعلى الراحل الخميني بها.
فقد حملت تلك الثورة إمكانات كبرى للتغيير سرعان ما دُفِنَتْ جميعها في غياهب حرب الثماني سنوات بين إيران والعراق (1980 - 1988).
فمصرع الشاب بوعزيزي الدرامي، وإن عرّى حالة واسعة وغير مسبوقة من القمع والظلم في المنطقة، فهو أدى إلى تفجّر واقع من اليأس الكامن كان يتراكم يوماً تلو الآخر ضد الحرمان وانعدام العدالة والفقر المدقع، كما عبّر عن نفسه بأشكال مختلفة من الاحتجاج والعنف انتشرت في معظم أركان المنطقة بسرعة فاقت جميع التوقعات. مع انتحار بوعزيزي، وُلِدَ "الربيع العربي" وانتشرت خلال أشهر قليلة موجات هوجاء غاضبة، وقامت ثورات حقيقية أدت في النهاية إلى زوالٍ مباشر لأربع ديكتاتوريات في تونس ومصر وليبيا واليمن، وترنّحت خامسة تلك الديكتاتوريات في سورية.
هنا تحديداً، وفي دمشق، بانت أيادي طهران جليّةً كرافعة وحامية لنظام كاد يلتحق بالأنظمة الأخرى لولا حقنه بالدعم والاستخدام السريع لميليشيات "حزب الله" اللبنانية، في مواقع مختلفة حول دمشق وعلى طول الحدود المشتركة مع لبنان لحمايته. وجاء بعد ذلك بطبيعة الحال، التدخل العسكري الأقوى لروسيا الاتحادية لترسيخ إدارة حكومة الرئيس بشار الأسد فوق رقعة تقل عن ربع أراضي سورية.
إيران تتحرك في منطقة لا حدود لديناميتها التي تقع خارج كل المقاييس، ما يرجح عند لحظة ما أن ينعكس دورها المخرب فيها، وبالاً عليها. إذ إن موت رجل واحد في تونس، كان حتى قبل يوم سبق يعيش على هامش الحياة، بدا في مثابة شرارة أطلقت حركة التغيير وحفرت في وجدان الملايين في المنطقة وما وراءها أن للاستبداد نهاية. ولأنه يصعب عادة التنبؤ بما يحمله التاريخ في وقت مبكر، فقد كشف ذلك الموت وما تلاه من تطورات كبرى في تونس وغيرها من الدول العربية في الأسابيع والأشهر اللاحقة، ما فاق الخيال عن وجود ديناميكية فائقة الحجم والنوعية لم تكن تدركها شعوب المنطقة.
وبرهنت هذه الدينامية عن أجلى حالاتها في تونس، إذ بعد شهر واحد تقريباً من الاحتجاجات المستمرة، فرَّ الديكتاتور الأول بعد جلوسه 24 عاماً على رأس السلطة من البلاد، مصطحباً زوجته ليلى طرابلسي التي قيل إنها حملت معها أكثر من نصف احتياطي المصرف المركزي من الذهب. ويؤكد ما حصل في تونس، أنه يمكن صنع التاريخ بفعل رجل واحد أطلق ما بات يُعرف ب "ثورة الياسمين". وبعد أسابيع، جاء دور الديكتاتور الثاني الذي تمثّل بطرد الرئيس السابق حسني مبارك من منصبه في 11 شباط (فبراير) 2011، بعد مرور نحو ثلاثة عقود على وجوده فوق مقعد الحكم. وفي الخامس عشر من الشهر ذاته، انطلقت الاحتجاجات في ليبيا إثر اعتقال أعضاء مجموعة المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان، ممن عاملهم العقيد معمر القذافي بعنف غير مسبوق. لكن بعد ثلاثة أيام فقط، توضّحت هشاشة نظامه عندما استولت تنظيمات المعارضة المختلفة على بنغازي، ثاني المدن الليبية، مدونةً بداية النهاية لحقبة حاكم دامت أكثر من أربعة عقود، وانتهت في 20 تشرين الأول (أكتوبر) بمقتله في بلدة سرت، مسقط رأسه.
مع امتداد الحراك المجتمعي الاحتجاجي إلى سورية في آذار (مارس) 2011، الذي تصادف مع انتقال السلطة في العراق إلى أصدقاء طهران إثر استكمال الانسحاب الأميركي منه، والمتزامن مع المفاوضات الماراثونية حول ملف إيران النووي، رمت أجهزة طهران الأمنية بثقلها في البلدين. واستلم "الحرس الثوري" الإيراني إدارة شؤون الملف العراقي، موسّعاً الشرخ الطائفي في عهد سنوات رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي كان يعتبر طهران مرجعيّته الأولى.
وفي هذه الأثناء، خاض نظام الأسد معركة بقاء مع معارضة عفوية دشّنها بالرد العنيف على متظاهرين مدنيين من شباب بلدة درعا في جنوب البلاد، قاموا بحركة احتجاج مطلبية سلمية. وكانت تلك الحركة بداية انتفاضة شعبية عفوية في معظم أرجاء البلاد ضد حكم سلالة الأسد الذي دام أربعة عقود ونيّف. وبلغ عدد الضحايا خلال الأشهر الستة الأولى من الانتفاضة، نحو 3000 ضحية قتلوا على أيدي الأجهزة الأمنية، قبل أن تتحول الأزمة في أواخر 2011 إلى حرب مفتوحة بين النظام وشعبه، فضلاً عن حروب الآخرين، وفي مقدمهم طهران، فكلفت سورية حتى الآن نحو 280 ألف ضحية وأحد عشر مليوناً من النازحين واللاجئين.
عبث طهران بالإقليم لا يرحم ولا يمكن التنبؤ بأخطاره، وما يهمها هو أن تحافظ على ما أسمته "سورية المفيدة" ضمن عناصر نشاطها الإقليمي العابر للمنطقة من شمالها حتى باب المندب. إيران لا تزال دولة غنية بمواردها المتعددة على رغم الحصار الاقتصادي، لكن لا يعرف بدقة حجم إنفاقها على نشاطها الإقليمي المباشر. إلا أن "معهد واشنطن" الأميركي يعتقد أنها تمول نحو 140 ألف مقاتل في سورية والعراق فقط، بكلفة نحو 280 مليون دولار شهرياً أو حوالى 3،5 بليون سنوياً. ويقدر إنفاق طهران على عملياتها في البلدين بنحو عشرة بلايين دولار في العام الواحد. إيران تنتظر رفع الحصار عنها بعد الاتفاق النووي في أي لحظة، للالتفات نحو معالجة همومها الداخلية الكثيرة (تضخم وبطالة وجيل أكثر من نصفه تحت سن العشرين). لكن، هل يخفف رفع الحصار، أم يزيد، من عبثها الإقليمي؟