الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هل يزهر الربيع العربي في سورية؟

هل يزهر الربيع العربي في سورية؟

08.07.2013
انس المرابط

القدس العربي
الاثنين 8/7/2013
جاءت أحداث ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي بمثابة الصفعة المدوية، التي استنهضت الشعوب القابعة تحت وطأة الاستبداد، ودفعت بها نحو الشوارع والأزقة والساحات العمومية لتعلن جهاراً عن غضبها من تزايد تدهور حالتها المعيشية، وعن نبذها للوضع القائم المفروض عليها قسراً من طرف أنظمة ديكتاتورية، وأوليغارشيات قبلية، وملكيات مفترسة، وتسلطيات حاكمة عمدت إلى إذلالها ونهب ثرواتها، والإمعان في كبت حرياتها والجهر بتبعيتها وخنوعها لإملاءات الإمبريالية والصهيونية، حاضنتي الإرهاب الدولي.
ولم يكن لهذا الربيع أن يزهر، رغم نواقصه وإخفاقاته في أكثر من مجال، من دون نجاح الجماهير التونسية المنتفضة في الإطاحة بالرئيس بن علي، رمز الفساد، وتبدد عقدة الخوف المزمنة التي كانت تحول دون مطالبة هذه الشعوب الثائرة بحقوقها الطبيعية المشروعة، من أجل تحقيق تطلعها الحثيث نحو الحرية والمساواة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وفي ظرف وجيز من الزمان استطاع الحراك الشعبي بزخمه وإصراره البطولي على المضي قدماً نحو تحقيق مطالبه المشروعة، أن يطيح بأربعة رؤساء (زين العابدين بن علي في 14/1/2011 حسني مبارك في 22/2/2011 ومعمر القذافي في 20/10/2011 وعلي عبد الله صالح في 21/01/2012)، وأن يبقي على شرارة الاحتجاجات موقَدة في أكثر من بلد، إما لعدم استجابة النخب الحاكمة لمطالب المحتجين، وإما لمحاولة تصحيح مسار الثورة بعد ظهور القوى الظلامية المتسترة وراء الدين، وفوزها في الانتخابات البرلمانية في كل من تونس ومصر، وانكشاف تواطؤها المفضوح مع الرجعية العربية والإمبرياليات الاستعمارية من أجل تقويض سيادة شعوب المنطقة، وعرقلة مسيرتها نحو التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
اليوم وبعد عامين من التضحيات الجسام، والنضالات المستميتة في أكثر من دولة ومكان، كلا بحسب إمكانياته وطبيعة النظام الحاكم، يبدو أن المخاض ما زال عسيراً وطويلاً، بفعل ما آلت إليه أوضاع الثورات، خصوصاً بعد تدخل بعض القوى الإقليمية إلى جانب الإمبرياليات الاستعمارية لتعزيز مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والحول دون استكمال المسلسل الثوري في المنطقة.
ولعل أهم وأخطر معالم هذا التدخل هو ما عاينّاه في ليبيا، ونشاهده اليوم في سورية. ففي الحالة الليبية نجد أن القوى الإمبريالية الاستعمارية تصرفت بدهاء كبير في إدارة الصراع لصالحها، وعرفت كيف تدبر أمرها قبل الشروع في إسقاط نظام القذافي، فحرَصت أولاً على إبرام صفقات تجارية ضخمة مع المجلس الوطني الانتقالي الليبي، شملت بامتياز قطاعي النفط والإعمار، وكان لفرنسا حصة الأسد، ثم عمَدت إلى إغراق البلاد بالسلاح والمجموعات التكفيرية لعرقلة أيّة مصالحة شعبية، من شأنها الحفاظ على وحدة الدولة وتعزيز مكانتها عبر تحقيق أهداف الثورة المتمثلة في بناء مجتمع ديمقراطي تعددي يقوم على العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان.
وبعد اجتياح طرابلس، وسقوط النظام، واغتيال معمر القذافي ونجله المعتصم، في ظروف غامضة لعلّ المرادُ منها قبر 42 سنة من أسرار حكام العرب، وبعض الساسة الغربيين الذين باتوا مهددين بانفضاح أمر تورطهم في استلام أموال وهدايا ممن كانت تربطهم به، أي القذافي، علاقة حميمة متميزة قبيل هروب الرئيس التونسي إلى المملكة السعودية بأيام. دخلت ليبيا منعطفاً جديداً من التصعيد بين أطراف المعارضة المتخاذلة في ما بينها، حيث احتكمت المجموعات المسلحة إلى هواها في إدارة شؤون المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وحلت القبيلة محلَّ الدولة في ظل غياب رؤى مستقبلية موحدة حول كيفية إدارة شؤون البلاد، فتحول مشروع بناء الدولة الديمقراطية المنشودة إلى صراع نفوذ ومصالح بين أمراء الحرب، والميليشيات التكفيرية، وأعضاء الحكومة الانتقالية بمباركة القوى الإمبريالية التي باتت تستبشر خيراً بمشروعها التجزيئي، بعد أن كان في الماضي مجرد وهم.
أما واقع الحال في سورية، فيمكن توصيفه بالكارثي ـ الحاسم، نظراً لأبعاده وتداعياته الجيوسياسية على المنطقة العربية برمتها، ولحجم الدمار الذي حلّ بسورية، والمآسي الإنسانية التي لحقت بساكنتها، بعد أن دخلت الانتفاضات الشعبية، المطالبة بإعلاء الحق ورفع الحيف ومعاقبة مرتكبي جريمة تعذيب أطفال درعا المهمشة، مرحلة المواجهة المسلحة، جرّاء تعرضها للقمع والتنكيل من طرف قوات الجيش وأعوانه، إضافة إلى عدم استجابة النظام لمطالبها الديمقراطية المشروعة منذ البداية، الشيء الذي أدى إلى تصعيد وتيرة الاحتجاجات، وتعميق الهوة بين النظام والحراك الاحتجاجي، خصوصاً بعد رفع هذا الأخير سقف مطالبه إلى إسقاط النظام ورئيسه بشار الأسد، وظهور بعض الجماعات المسلحة بين صفوفه. وابتداء من هذه المرحلة، التي دامت بضعة أشهر، عرف المشهد السوري تطوراً نوعياً، خصوصاً بعد إطلاق الجيش العربي السوري عمليات عسكرية واسعة النطاق، ضد المسلحين المتمركزين في بعض الأحياء الشعبية والبلدات الريفية الصغيرة، وظهور بوادر الانشقاقات في صفوف قوات الأمن والجيش النظامي، الشيء الذي استغلته الدبلوماسية الغربية وحلفاؤها في المنطقة لتنصيب نفسها وصية على الشعب السوري، ريثما ترتب أوراق ما عرف في ما بعد بمعارضة الخارج، لممارسة الضغط على النظام، من أجل إجراء إصلاحات ديمقراطية وتعديلات دستورية على مقاسها. وفي مطلع شهر نيسان/أبريل 2011 تقدم النظام بمبادرات مهمة، مباشرة بعد أول خطاب لرئيس الجمهورية في 31 اذار/مارس، أفضت إلى رفع حالة الطوارئ في البلاد، والإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين، وبعض المتظاهرين المحتجزين الذين لم تلطخ أياديهم بالدماء، ثم شكلت بعد ذلك حكومة جديدة لإدارة شؤون الأزمة، ومنحت الجنسية السورية لآلاف المواطنين الأكراد بعد أن حرموا منها لمدة عقود. ورغم إعراب النظام عن نيته إجراء مزيد من الإصلاحات، واستعداده للخوض في حوار وطني جاد بين كافة قوى معارضة الداخل، لبحث سبل التوصل إلى حل تفاوضي سلمي للأزمة، فإن الأمور لم يتأت لها الاستمرارُ كما شاء، وذلك لعوامل موضوعية، كحيطة المعارضة وتحفظها من تصريحاته إذ فاقد الشيء لا يعطيه ولتقاطع المصالح الذاتية لبعض رواد المعارضة الجدد الآتين من العدم، مع المصالح الجيوسياسية لبعض الدول الإقليمية، ورغبة القوى الإمبريالية في تمديد الأزمة، لصرف الغاضبين في البلدان المنتفضة عن هدفهم التحرري ومشوارهم الثوري. وهنا لعب الإعلام الرسمي للغرب، وإعلام بعض الدول العربية المعادية للديمقراطية والإنسان، دور المحرض الحاقد في إدارة خيوط الأزمة السورية. فأوحى للناس أن النظام آيل إلى السقوط، وأضفى على المجموعات المسلحة رومانسية لا حدّ لها، عَصَمها من كل الجرائم المقترفة في حق المدنيين، ليلصقها كاملة بالجيش النظامي وقوات الأمن.
وجاء ما كنّا نخشاه، ونَتيَقّن حدوثه بعد الاستهداف الجبان للمخيمات الفلسطينية، تنفيذاً لخطة صهيونية محكمة، هدفها ضرب حق العودة عبر تشريد اللاجئين الفلسطينيين، وترحيلهم بعيداً عن وطنهم وعن جميع مراكز المقاومة، لتسهيل عملية تدجينهم وصدّهم عن تحقيق مشروعهم الوطني التحرري. ولم يكن هذا ليُفاجئ أحداً، خصوصاً أن الضغوطات على سورية في هذا المجال لم تكن وليدة اليوم، بل أتت مُمَوّهة في سياق محاولات عديدة، أبرزها العرض الذي تقدم به وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، كولن باول، لدى زيارته دمشق سنة 2003، والقاضي بترحيل اللاجئين الفلسطينيين من سورية إلى قطر، الشيء الذي رفضته الرئاسة السورية وألحت على ألا مجال لخروج الفلسطينيين من سورية إلا نحو وطنهم فلسطين، وهو ما دشن لمرحلة جديدة من التوتر في العلاقات الأمريكية السورية أفضت إلى فرض هذه الأخيرة عقوبات اقتصادية على دمشق، ابتداء من سنة 2004، جزاءَ دَعمها لقوى المقاومة العربية، خصوصاً حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني في نضالهما ضد الكيان الصهيوني، ومدّدتها سنة 2006 بعد اغتيال الرئيس الحريري، وانسحاب الجيش السوري من لبنان في نيسان/ أبريل 2005 تحت ضغط الشارع اللبناني وبطلب من حكومته. وفي 2007 تم تشديدها مجدّداً، وهذه المرة في إطار الاستعدادات الإسرائيلية العسكرية، تمهيداً لشن هجومها على غزة – المحاصرة منذ فوز حماس في الانتخابات التشريعية سنة 2006، بدواع أمنية وللحد من سقوط صواريخ المقاومة الفلسطينية على المستوطنات. وها هي حماسُ الآنَ قد تَسرّب إليها الشقاق، وأصبحت تعاني من الانقسام بفعل هذه المؤامرة، ففريق منها اِنساق وأبهره الترف، وفريق مقاوم مناضل عزّ عليه فراق مدفعه، وهجرِ حاضن قواعده وداعم نصره، واقفاً مبهوراً من تزاحم الأضداد وزخم المتناقضات.
وهنا لا بد من الإشارة إلى الخطأ التاريخي الذي ارتكبه النظام السوري لدى اعتماده ما سماه بسياسة اقتصاد السوق الاجتماعية، وفتحه أبواب السوق الداخلية أمام الاستيراد، ودعمه للاستثمارات الأجنبية للالتفاف على العقوبات الاقتصادية، وتخفيف ضغط الرأسماليات الغربية عليه، من دون أن يواكب هذا الانفتاح الاقتصادي انفتاح سياسي ديمقراطي حقيقي، يُشرك المواطنين في صنع القرار، ويصون مصالحهم ويحفَظها، وهو ما أدى إلى ظهور طبقة من رجال الأعمال اغتنت بشكل فاحش مستغلة استشراء الفساد، وابتعاد بعض المسؤولين والنخب السائدة المتحكمة في السلطة عن واجبها المهني أمام مجمل الخروقات والتجاوزات القانونية التي صاحبت ممارسة النخب التجارية الجديدة، الأمر الذي أدى إلى تصدع التوازن الاجتماعي الهش أصلاً، واتساع جيوب الفقر والتهميش، خاصة في الأرياف والأحياء الشعبية المحيطة بالمدن الكبرى التي تحولت لاحقاً إلى ملاذ للتطرف الديني والسخط الشعبي، عَرَفت كيف تستغله بعض الدول الإقليمية، بإيعاز صهيوني أمريكي، لتنفذ من باب الجوار والتعاون الاقتصادي، وتفرغ حمولات توجهاتها التكفيرية الظلامية خفاءً، وتُعد العُدة والعتاد لما نحن الآن بصدد تجرعه من مرارة وحشية جراثيمها، وفق استراتيجية مدروسة، تدخل في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال افريقيا، الذي خططت له القوى الرأسمالية المتوحشة في أعقاب غزوها للعراق واحتلاله، مستهدفة تحويل التنوع الثقافي والإثني الذي تزخر به منطقتنا إلى صراع سياسي دموي لإعادة تجزئة المجزّأ على أسس عرقية، طائفية، مذهبية متناحرة في ما بينها تمهيداً للسيطرة عليها والتلاعب بمصير شعوبها (السودان والصومال والعراق مثلاً).
الآن، وبعد تجاوز عدد ضحايا الأزمة السورية التسعين ألف قتيل، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه، هو إلى متى سيستمر هذا الوضع في الاتجاه الدموي التخريبي، وهل يجب أن نواصل سياسة الأرض المحروقة، والتمترس في الأحياء الشعبية، وإزهاق أرواح الأبرياء، أم علينا أن نقف مليّاً، ونفكر بمنطق العقل السليم، ونوفر كل الشروط اللازمة لإيجاد حل سياسي سلمي تفاوضي بين النظام والمعارضة الوطنية الديمقراطية، يُنقذ البلاد من أهوال هذه الحرب المدمرة التي فُرضت قسراً وبُررت قسراً، باسم شعب وعلى شعب لم تكن مطالبه سوى إصلاح الأوضاع السياسية والاجتماعية وإقرار دولة الحق والقانون.