الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هنا سايغون من دمشق: الواقعية الأميركية الكئيبة

هنا سايغون من دمشق: الواقعية الأميركية الكئيبة

20.01.2015
مرح البقاعي



الحياة
الاثنين 19-1-2015
خلال غداء عمل جمعني في واشنطن مع مسؤول أميركي يشرف في حكومته على الملفات السوريّة الساخنة، قال لي بعد أن استمع مليّاً إلى رأيي بأداء البيت الأبيض وعلى رأسه أداء الرئيس باراك أوباما في ما يتعلق بالحرب الدائرة على الأرض السوريّة ومشتقاتها من حروب الآخرين عليها، وبهدوء ولهجة إذعان للواقع المربك: "لقد رسم الرئيس أوباما استراتيجيات السياسة الخارجية للبلاد حسب رؤيته الخاصة، ولا أعتقد أنه سيغيّر محاورها الرئيسة ما عدا ما يمكن أن يطرأ من تعديلات طفيفة في التكنيك السياسي هنا وهناك، وحسب دواعي الظروف الدولية، وعلينا أن نقبل بخطّه السياسي ونتعامل معه". واستأنف بسرعة كلامه من دون أن يتسنّى لي مقاطعته وقال: "أتمنى لو نسال الرئيس جورج بوش ماذا كان سيفعل لو حكم أميركا في ظروف مشابهة".
إلا أنني ما زالت أعتقد أنه بإمكان أوباما أن يفعل الكثير في العامين الأخيرين من فترة رئاسته الثانية والأخيرة. فالمتعارف عليه هنا في الولايات المتحدة أن الرئيس في هذه الفترة يركّز على استمرارية حزبه في الحكم لا على أدائه فيه، لا سيما أن استمرارية الديموقراطيين هذه المرة تواجه تحدّيات غير مسبوقة بعضها على المستوى الداخلي في الاقتصاد والصحة والأعمال في الولايات المتحدة، وأخرى على الصعيد الخارجي في السياسات المتعلّقة بتطوّر الأحداث في الشرق الأوسط تحديداً. فداخلياً أصيب الديموقراطيون في الانتخابات الأخير لمجلسي النواب والشيوخ بهزيمة قاسمة لم يمنَ بها حزبهم منذ خمسين عاماً، حيث سيطر الجمهوريون على الغالبية العددية في المجلسين في مناخ من انخفاض هائل في شعبية الرئيس وتراجع غير مسبوق في تأييد الأميركيين لسياساته.
أما على المستوى الخارجي فحدّث ولا حرج... إذ يكاد يكون عنوان التحدّي الأعـــظم للولايات المتحدة هو اندلاع العنف المتطرّف متمثلاً بتنظيم الدولة الإسلامية الذي أصبح يسيطر على مساحة جغرافية تعادل مساحة الأردن، حيث تمدّد في سورية على ما يعادل 35 في المئة من الأرض السورية، في حين انتشر في العراق من الموصل شمالاً حتى الرمادي على مشارف بغداد جنوباً. أما خريطة التنظيم في العراق والشام فإنها تشير إلى فهمه – ولو كان بدائياً – لاقتصاديات الحرب وأدواتها. فالتنظيم يشرف في سورية والعراق على معظم آبار النفط ويسيطر على إنتاجه وعلى مرافق مصافي البترول، وكذا يوفّر السوق السوداء لبيع هذا النفط في شكل غير شرعي لتجار هذه السوق في تركيا من جهة، وللنظام الرسمي السوري من جهة أخرى، ويؤمن بذلك مصادر تمويل القتال ومقاتليه.
أما الغارات الجويّة لقوى التحالف فلم تفلح في إيقاف مدّ التنظيم إنما أثّرت فقط على انتشاره. ولهذا كانت تقديرات القيادة المشتركة أن هذه الحرب ستستمر لسنوات عدّة في غياب قوية أرضية مرادفة تفتفقر إليها عمليات من هذا النوع، وعدو بهذه المواصفات، وهي غير متوفّرة ولن تتوافر على أي حال من جهة قوى التحالف.
الصقور الجمهوريون يضغطون على أوباما من أجل أن يطوّر خطته العسكرية لضرب التنظيم والقضاء عليه وليس تقليم أظافره وحسب، وذلك اقتداء بسلفه الرئيس ليندون جونسون في 1965 حين أرسل حملة جويّة لقصف أهداف استراتيجية في شمال فييتنام اتبعها بنشر القوات البرية الأميركية على الأرض. بينما لم تؤدِ آلاف الغارات التي يشنّها التحالف منذ شهرين على مواقع سيطرة تنظيم الدولة إلى كسر شوكته بسبب غياب المتابعة الأرضية لعمليات التطهير من الجو، إذ سارع مقاتلو التنظيم في إعادة الانتشار بين العراق وسورية، واتخذوا من الأحياء والمرافق المدنية مقرّات لهم، وأزالوا راياتهم حتى لا تكون هدفاً للضربات الجوية، بل بدّلوا من وسائل تنقلهم وأخذوا يتحركون بسيارات ركاب عادية وقد هجروا سيارات الدفع الرباعي (فورويلز).
وعلى رغم الضغوط التي يتعرّض لها الرئيس أوباما من أبناء جلدته الحزبية، تماماً كما يتعرّض لها من خصومه الجمهوريين ممن هم خارج دائرة الحكم وداخله، فإن الطرفان يُجمعان على أن الرئيس لن يقوم بالمغامرة في إرسال قوات قتالية بريّة مهما طال أمد الحملات الجوية التي قدّر لها البنتاغون أن تستمر ثلاث سنوات. وبينما يبرّر المقرّيون بأن أوباما قد تعلّم دروساً من التاريخ جعلته ينظر بمنظار الواقعية الكئيبة" (Grim Realism) لهكذا نوع من النزاعات ذات الجذور الأيديولوجية البحتة، ما جعله يوقن أن القوات البرية الأميركية - مهما عظم عديدها وعتادها - ستكون محدودة القدرة على الحسم في حروب من هذا النوع. أما الجمهوريون، فهم يرون أن أوباما حوّل الولايات المتحدة إلى قطّ خائر في وجه أسد مستأسد.
دخل جورج بوندي، مستشار الأمن القومي الأميركي في 1964، إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض قبيل إصدار الأمر بالحملة العسكرية على الحكومة الشيوعية في فييتنام الشمالية، فوجد الرئيس جونسون متجهماً واستقبله بالقول: "لا أعتقد أن لدينا أسباباً قوية تستحق أن ندخل من أجلها هذه الحرب... والأسوأ أننا لن نتمكّن من الخروج من دوامتها في حال دخلناها".
لعل الرئيس أوباما يشترك مع جونسون في مشاعر الواقعية الكئيبة تلك، إلا أن الأخير قرّر أن يدخل المغامرة العسكرية الكبرى في فييتنام حيث خسرت أميركا أول حرب خارجية في تاريخها. أما أوباما الذي دخل البيت الأبيض حاملاً رسالة مدّ اليد بالمصافحة للشرق المسلم، ونال جائزة نوبل الأرفع للسلام، فيبدو أن خسارة سلفه جونسون للحرب كانت الأغلب أثراً على قراراته، ما سيجعله مصمّماً على مغادرة المكتب البيضاوي صانعاً للسلام أيضاً، ولكن سلام من قشّ وريح هذه المرة.