الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هيمنة العسكري على السياسة

هيمنة العسكري على السياسة

17.11.2018
أحمد عيشة


سوريا تي في
الخميس 15/11/2018
كما ذكر كلاوزفيتز (مؤرخ ألماني ومنظر إستراتيجي للحرب) في كتابه الشهير (عن الحرب): "الحرب استمرارٌ للسياسة ولكن بوسائل أخرى"، بمعنى إذا كانت الحرب وسيلة فالسياسة هي الغاية، أي من الضروري توظيف الحرب كآلية سياسية عبر القنوات المعروفة لتحقيق الهدف.
بالتأكيد، ليست الثورة السورية حربًا، وإن اتخذت في مرحلةٍ ما شكل الصراع العسكري، عندما تحولّت إلى كفاح مسلح ضد عدوان النظام البشع على الشعب. كما لا يمكن تصنيفها حرباً أهلية، فالسلطة بكاملها كهيكلية أمنية وعسكرية ما زالت طرفاً في قمع الناس، رغم الانشقاقات الفردية الكثيرة التي حدثت، ورغم اكتساب الصراع العسكري شكلاً من الصراع الطائفي، بسبب سياسة النظام الطائفية ودخول التنظيمات الجهادية الإسلامية عنوة للبلاد، كونها أصبحت ساحة تغويها في تحقيق مشروعها.
تحولت طبيعة المعركة مع النظام، من تظاهرات ونضالات سلمية شتى إلى معركة عسكرية، بعد تأسيس الفصائل العسكرية تحت أسماء كثيرة، والتي ظهرت في بدايتها لحماية المتظاهرين من عدوانية قوات النظام، لكن النظام رفع مستوى العنف أكثر وانتقل إلى مرحلة أكثر توحشاً باستخدام صنوف جديدة من الأسلحة: (الصواريخ والبراميل والطيران).
سارعت الدول الإقليمية والدولية إلى التقاط تلك اللحظة التي وجدتها فرصة لتوظيف الثورة تحقيقاً لمصالحها، فاحتضن كل طرف فصيلاً أو عدة فصائل، من خلال التمويل والتسليح، ومن ثمّ استخدمه كأداة من أدواته لتحقيق أغراضه السياسية.
بالتأكيد، ليست الثورة السورية حربًا، وإن اتخذت في مرحلةٍ ما شكل الصراع العسكري، عندما تحولّت إلى كفاح مسلح ضد عدوان النظام البشع على الشعب
مع بدايات انطلاقة الثورة، تأسست الهيئات السياسية التي هدفت إلى تمثيل الثورة وطرح أهدافها أمام العالم، لكنها بتوهّم منها وبضغط خارجي، خضعت بشكل ما إلى الأجندات الدولية، التي لا يهمها سوى القبض على قوى الثورة أياً كانت، وتوظيفها لخدمة أهدافها السياسية والمصلحية.
مع غلبة الطابع العسكري على ثورة السوريين؛ تراجع النضال السلمي كثيراً، رغم تمسك الكثير من الفصائل العسكرية بالهدف الذي قامت من أجله الثورة، وهو إسقاط النظام، وذلك في تعدٍّ صارخ على مهمة السياسي والسياسة، تحت ذريعة أنهم من يصمد على الأرض، وأنهم من حرّر الأرض، وأنهم من يمنحون الشرعية لأي جهة سياسية أو مدنية، مما خلق جبهتي صراع بين قوى الثورة، بدلاً من أن يكون التنسيق على الأقل بينهما، طالما لم يتحقق التسليم بمجال لكل منهما.
التقط النظام وداعموه روسيا وإيران تلك النقطة، وعملا على تعميق الفجوة، من خلال خلق التعارض أكثر بين الداخل والخارج (كون هيئات المعارضة أغلبها في الخارج)، وعملت في مرحلة تالية على عقد صفقات منفردة مع بعض الفصائل على حساب أخرى، كما شجعت عمليات الاقتتال الداخلي.
المرحلة الأكثر خطورة، والتي أصبحت السائدة، هي التي أتت بعد الانكسارات العسكرية التي تلقتها الفصائل، وأولها وأكثرها أهميّةً ما حدث في حلب، بالدعوة إلى مفاوضات دولية طرفها السوري: الفصائل العسكرية، وذلك في آستانا مطلع عام 2017، تلك الاجتماعات التي تحوّلت، بحكم الأمر الواقع والدول الراعية لها، إلى مسار سياسي بديل لمسار جنيف (رغم ادعاء الأطراف كلها بأنه ليس بديلاً وإنما مكمل لها)، وكانت تلك الفصائل نتيجة لعلاقاتها الإقليمية والدولية بمثابة الدمية لا أكثر، وقدمت تنازلات لم يقدمها المفاوضون في جنيف رغم كل الظروف
لربما هناك اتجاه دولي عام في عسكرة السياسة، وخاصة في الأنظمة الدكتاتورية والفاشية، وهو ما نشهده حتى في دول كبرى مثل روسيا بوتين، وأميركا ترامب، ناهيك عن سورية الأسد
الجانب الآخر لهيمنة العسكري على السياسي، ما يحدث في الداخل، وفي المناطق المعروفة بالمناطق المحررة، ففضلاً عن غياب النشاطات المدنية والسياسية، سارعت تلك الفصائل كل على حدة، إلى تأسيس قوتها الأمنية، ومحاكمها الشرعية أو المختلطة، وإلى سجونها الخاصة، وغير ذلك من النشاطات، مما خلق منها قوة خارجة على جسد الثورة، وفي بعض الأحيان كانت قوة قمع ساهمت في ابتعاد الجمهور عنها وعن الثورة، مما سهلّ أكثر من إخضاعها، وعرّض الثورة لانتقادات كبرى أخلاقية.
لربما هناك اتجاه دولي عام في عسكرة السياسة، وخاصة في الأنظمة الدكتاتورية والفاشية، وهو ما نشهده حتى في دول كبرى مثل روسيا بوتين، وأميركا ترامب، ناهيك عن سوريا الأسد القائمة أساساً على هيمنة المخابرات والعسكر على مختلف المفاصل الأساسية، ومصر السيسي، وسعودية ولي العهد، فمن يحدد مهمة الدبلوماسية والسياسة الخارجية هم الأجهزة الأمنية ووزراء الدفاع وقادة الأركان الذين التي لا يراها العسكريون أبداً، ويصرّون على دمغها بأبيض أو أسود.
الخطير، أن الفصائل العسكرية وقعت في نفس المستنقع، أي شغلت مهمة السياسي، مما أوقعها في مطبات كبرى، وهو الأمر الذي أضاف تعقيداً إلى إمكانية عودة السياسة وجعله أمراً صعباً، ولكنه بالتأكيد ليس مستحيلاً، وعودة التظاهرات مؤخراً إلى المناطق المحررة التي تصدح بأهداف الثورة يمكن أن تكون البداية، إن استمرت، وتمكنت من نزع هيمنة العسكر عن الإدارات المدنية.
على الرغم من أن واقع الحال في المناطق المحررة صعب للغاية، فلا بد من العمل على أمل خلق حياة سياسية حرة، يكون للناس الكلمة الفصل في تقرير شؤون حياتهم، وللعسكريين دورهم في حماية الناس والبلاد، وفي حال استمرارية الحال على ما هو عليه (سيطرة العسكر على السياسة)، فليس أمامنا سوى المزيد من الانكسارات