الرئيسة \  واحة اللقاء  \  فوضى السلاح و "الهيئات الشرعية"...الثورة السورية من العسكرة إلى المقاومة

فوضى السلاح و "الهيئات الشرعية"...الثورة السورية من العسكرة إلى المقاومة

18.08.2013
عمر كوش

المستقبل
الاحد 18/8/2013
تبدأ قضية السوريين في ملحمتهم الثورية من الحراك الاحتجاجي السلمي، الذي اندلع في الخامس عشر من آذار/ مارس 2011، وتكشّف عن ثورة شعبية فريدة، قلّ نظيرها في التاريخ الحديث. واجهها النظام الأسدي بالقمع والعنف المفرط منذ يومها الأول، ومع ذلك استمر المحتجون السلميون أشهراً عديدة، قدموا خلالها تضحيات كبيرة في الأرواح والممتلكات والأرزاق.
ولم يكن من الممكن أن يستمر الثائر السوري في التظاهر فاتحاً صدره العاري في مواجهة رصاص قوات النظام العسكرية والأمنية، أو أن يسلم رأسه وجسده لسيوف وسكاكين الشبيحة، أو أن يستقبل المتظاهرون بمختلف انتماءاتهم وتكويناتهم وثقافاتهم قذائف الدبابات وصورايخ الطائرات وبراميلها المتفجرة في صفوف طويلة، تلبس الأبيض، وترفع أغصان الزيتون بيد، وتطيّر الحمام الأبيض باليد الأخرى.
ولعل التحول الأول على مسار الثورة، طرأ نتيجة اضطرار قسم من شبابها، الذين شاركوا بشكل أو بآخر في حركة الاحتجاج العام، الذي شمل معظم المناطق السورية، إلى حمل السلاح، ليدخلوا في حربٍ غير متكافئة مع النظام الأسدي، بعد إعلانه الحرب على المتظاهرين السلميين وعلى حاضنتهم الاجتماعية، وراح يخوض حرباً شاملة مدمرة ضد غالبية السوريين ومناطق سكناهم، الأمر الذي أفضى إلى تراجع المظاهر المدنية السلمية التي أسست للثورة السورية، حين كان المتظاهرون يوزعون التمّر على الجنود، ويحملون الورود وأغصان الزيتون في مواجهة رصاص قوى الأمن والشبيحة. ولعل صور اللافتات التي كانت تجمع بين الهلال والصليب، وتساوي ما بين السني والعلوي والدرزي والإسماعيلي، وبين العربي والتركماني والكردي، مازالت ماثلة للأذهان، وتختزنها ذاكرة الثورة. وكلنا يذكر شعار "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد"، الذي صدحت به حناجر المحتجين في معظم المناطق الثائرة. لكن التحول في مسار الثورة استحال إلى حرب حقيقية، أزاحت المظاهر السلمية لتظهر مشاعر الكراهية والانقسام، وصعدت مظاهر العسكرة من خلال تسلح مجموعات أهلية، وبخاصة في الريف السوري، حيث أن عائلات وقرى كثيرت جنّدت شبانها ورجالها من أجل الدفاع عن حياتهم وأماكن سكناهم، لكنها أدخلت أيضاً نفساً من الكراهية وروحية الانتقام من الآخر. وراحت المجموعات العسكرية غير المنظمة تبحث عن موارد تسليحها وعيشها بشتى الطرق، المشروعة وغير المشروعة، خصوصا مع انعزال معظم الضباط الذين انشقوا عن الجيش النظامي وآثروا اللجوء إلى تركيا والأردن.
ولعل الدعم الخارجي، المنحاز وغير المنتظم، الذي تلقته المجموعات والفصائل المسلحة، أسهم في تعدد ولاءاتها وتناثرها، وأثار ريبة سوريين كثر من الأجندات التي تهدف إليها الدول الداعمة، وعمل على إشاعة فوضى السلاح والتسلح، وإطلاق اللحى والذقون.
ربما، وبالنظر إلى خصوصيات ما واجهته - وما زالت - تواجهة الثورة السورية، كان لا بد من العسكرة والتسلح غير المنتظم، بوصفهما من مظاهر رد الفعل الأولية والطبيعية على جرائم وهمجية النظام الأسدي، لكنها مع الأسف - لم تتحول إلى فعل مقاومة منظمة ضد استباحة النظام للمدن والمناطق والقرى السورية، بالرغم من أن خصوصية الثورة السورية وفرادتها، تستلزم مقاومة منظمة، متعددة المظاهر والفعاليات، بخاصة وأن سوريا اليوم، تخضع لآثار احتلال مركب: احتلال داخلي، ممثلاً بالنظام الأسدي الذي احتل البلد منذ أربعة عقود، واحتلال خارجي، يجسده العسكر والخبراء الإيرانيون وميليشيات حزب الله وبعض الميليشيات العراقية وسوى ذلك، وبالتالي، ليس صدفة أن توصف المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر، بـ"المناطق المحررة"، والمناطق التي يسيطر النظام السيطرة عليها بـ"المناطق المغتصبة"، ذلك أن ضباطاً من الجيش العقائدي، راحوا يصرحون لبعض وسائل الإعلام، بأنهم يعملون على الأرض كقوة احتلال، وليس كقوة أمنية، وأنهم يعرفون تماماً بأنهم باتوا قوة احتلال في نظر سكان المناطق السورية التي يجتاحونها. وعليه، فإن الثورة السورية تواجه نظاماً، يعتبر نفسه قوة احتلال، واستدعى قوات احتلال أجنبية، كي تساعده وتخوض المعارك معه على الأرض، وهي تتصرف على هذا الأساس. وبالتالي، من المشروع إن يقاوم السوري الاحتلال حتى يتحرر وينال حريته، في اقتران مشروع بين الحرية والتحرر.
وفيما يستمر المدنيون السوريون في فعل مقاومتهم، تبدو معظم الفصائل المسلحة بعيدة كل البعد عن فعل المقاومة، بمختلف مظاهرها، ولعل العسكرة المنفلتة من رباطها وعقالها، أنتجت مظاهر و"هيئات شرعية" و"إمارات"، بعيدة كل البعد عن أهداف الثورة السورية ومطالب ناسها، فالناس في الثورة أحسوا بأنهم أحياء، حين قرروا الخروج من بيوتهم والنزول إلى الساحات والشوارع للاحتجاج على الاستبداد المقيم منذ أكثر من أربعة عقود. خرجوا طلباً للحرية واسترجاع الكرامة، ولوضع حدّ لليأس والذل والخنوع، وتحملوا لأجل ذلك كل أنواع القذاف والقنابل والرصاص التي مازالت تنهمر عليهم، وتخطف أرواحهم.
لقد شعر الثائرون السوريون بأن حياتهم أضحت ذات معنى في الثورة، وأن كل فرد فيهم يمتلك ذاتاً، شعر لأول مرة في حياته بقيمتها في ميدان التظاهر والاحتجاج، فقرروا جميعاً عدم التراجع أمام إمعان النظام في القتل والمجازر، بل وأظهروا قدرة لا توصف على التحمل خلال أكثر من عامين ونصف من عمر الثورة، بالرغم من كل انواع القصف والدمار الذي لحق بهم وباماكن سكناهم. وبالتالي لن يقبل السوريون بحكم "الهيئات الشرعية"، التي منحت نفسها شرعية مفقودة، ومشكوك بها ومطعون فيها، كونها جاءت من أمراء العسكرة وتوابعها، وهي تنتمي إلى مجموعات ليست مفجرة للثورة، ولا قادتها في أي يوم من الأيام، بل استغلت فراغ القوة الحاصل بعد انحسار سلطة النظام الفاقد الشرعية مثلها، كي تحتل الفضاء العام وتصادر الحرية التي خرج من أجلها الثوار السوريون. وقد تحولت هذه المجموعات المسلحة إلى سلطة استبداد جديدة، حاولت إشغال مكان سلطة الاستبداد القديمة، وراحت تقوم بأفعال لا تليق بثورة السوريين، حتى باتت تعيث فساداً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وذلك بدلاً من ان تنخرط في حركة المقاومة الشعبية وتكون عوناً لها.
وبالرغم من كل ذلك فإن قوى الثورة ستظل تصارع من أجل تحقيق آمال الشعب السوري في نيل الحرية والتحرر، والوصول إلى دولة مدنية تعددية، تنهض على مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان، لذلك من الصعب اختصار الثورة السورية بالعسكرة، ذلك أن العسكرة تعني خضوع كل شيء للبندقية، وتفضي إلى نشوء أمراء الحرب وتجارها، فيما المقاومة تنهض على إخضاع السلاح لحسابات سياسية ومصالح وطنية عليا، وتحقق انتماءً سياسياً وعسكرياً للوطن وناسه. وإن كان ثمة فعل ضروري ومطلوب من المجاميع المسلحة، فهو الانخراط في صف الثورة، والمشاركة في المقاومة بشكل موحد ومنظم، بغية الوصول إلى سوريا الجديدة، والعمل على الحفاظ على صورة سوريا التاريخية، باختلافاتها وتنوعاتها ومدنيتها، ذلك أن التاريخ اليوم - يسطره الفاعلون في حدث الثورة، ولن يتوقف إلا عند بلوغها الهدف، المتمثل في تحقيق تحول تاريخي نحو سوريا الجديدة، ولن يتحقق هذا التحول إلا عبر صراع مديد، وبالتالي فإن أعداء الثورة يلتقون اليوم - دون أن يعلموا - مع أنصارها في تحقيق هدفها المنشود.