الرئيسة \  واحة اللقاء  \  وقائع ما جرى في الخامس من يونيو

وقائع ما جرى في الخامس من يونيو

09.06.2015
العزب الطيب الطاهر



الشرق القطرية
الاثنين 8/6/2015
بالتأكيد ما جرى في الخامس من يونيو من العام 1967 - والذي مرت ذكراه الثامنة والأربعين يوم الجمعة الفائت - هو هزيمة بكل المقاييس لم تنعكس تداعياتها على ما كان يطلق عليه آنذاك. دول المواجهة وهي مصر وسوريا والأردن. فضلا عن فلسطين جوهر الصراع مع الكيان الصهيوني المغتصب. وإنما أصابت الأمة. كل الأمة. في جوهر مشروعها القومي. وفي محاولتها للنهوض. ما أدى إلى انكسار عام لهذا المشروع وشعور المنتمين له بحق بأنهم أصيبوا في مقتل ربما من فرط سقف التوقعات الذي كان عاليا وتجاوز ما تمتلكه الأمة من إمكانات وطاقات. غير أن الهزائم - وفق الحتمية التاريخية - ليس بوسعها أن تفت في عضد الأمة أي أمة. وإنما يتعين عندما أن تقفز عليها وتتجاوزها من منظور إيجابي. أي الوقوف عند الإخفاقات والأسباب والثغرات التي قادت إليها ثم العمل على احتوائها. وبناء منظومة مغايرة لما كان سائدا. تمهيدا لمحو تداعياتها السلبية والمضي باتجاه تحقيق التحولات الإيجابية. بما في ذلك دحر العدو الذي تسبب في هزيمة الأمة.
ورغم انتمائي للفكر الناصري. دون أن ارتبط تنظيميا بحزب أو جماعة أو حركة بسبب هشاشة ما هو قائم منها وانخراطها في سلسلة من الانقسامات والصراعات التي أجهضت إمكانية بناء تنظيم حزبي أو سياسي يكون وريثا حقيقيا للفكر الناصري. فإنني بعد قراءات متنوعة. ليس بمقدوري أن أتجنب الإشارة إلى أن ثمة أسبابا في بنية الحكم الناصري آنذاك. أسهمت من دون شك في وقوع هذه الهزيمة المدوية. ويحمد في هذا السياق للزعيم الخالد جمال عبد الناصر إدراكه لهذه الأسباب. إلى جانب المؤامرة التي دبرتها أطراف إقليمية وغربية وكشفت عنها الوثائق فيما بعد. فضلا عن ضلوع الكيان الصهيوني فيها بكفاءة عالية. فسارع إلى إعلان تنحيه عن منصب رئيس الجمهورية والعودة إلى صفوف الجماهير في خطابه الشهير في التاسع من يونيو.
واللافت في خطاب التنحي أن عبد الناصر. بعد أن استعرض المعطيات الخارجية في حدوث النكسة تساءل: هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسؤولية في تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق - ورغم أي عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة - فإنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه: لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر".
وحسنا فعل عبد الناصر عندما أوضح بجلاء أن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبد الناصر هو عدوها، وأريد أن يكون واضحاً أمامهم - الكلام له - إنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبد الناصر. والقوى المعادية لحركة القومية العربية تحاول تصويرها دائماً بأنها إمبراطورية لعبد الناصر، وليس ذلك صحيحاً، لأن أمل الوحدة العربية بدأ قبل جمال عبد الناصر، وسوف يبقى بعد جمال عبد الناصر. ولقد كنت أقول لكم دائماً: إن الأمة هي الباقية، وأن أي فرد مهما كان دوره، ومهما بلغ إسهامه في قضايا وطنه، هو أداة لإرادة شعبية، وليس هو صانع هذه الإرادة الشعبية. ثم شدد على أمر بالغ الأهمية: إنني بذلك لا أصفي الثورة، ولكن الثورة ليست حكراً على جيل واحد من الثوار، وإني لأعتز بإسهام هذا الجيل من الثوار. لقد حقق جلاء الاستعمار البريطاني، وحقق استقلال مصر، وحدد شخصيتها العربية، وحارب سياسة مناطق النفوذ في العالم العربي، وقاد الثورة الاجتماعية، وأحدث تحولاً عميقاً في الواقع المصري أكد تحقيق سيطرة الشعب على موارد ثروته وعلى ناتج العمل الوطني، واسترد قناة السويس، ووضع أسس الانطلاق الصناعي في مصر، وبنى السد العالي ليفرش الخضرة الخصبة على الصحراء المجدبة، ومد شبكات الكهرباء المحركة فوق وادي النيل الشمالي كله، وفجر موارد البترول بعد انتظار طويل.
وأراد الزعيم ناصر أن يجدد ثقته في الشعب والقوات المسلحة في الخطاب ذاته فقال: لقد كان الشعب رائعاً كعادته، أصيلاً كطبيعته، مؤمناً صادقاً مخلصاً. وكان أفراد قواتنا المسلحة نموذجاً مشرفاً للإنسان العربي في كل زمان ومكان، لقد دافعوا عن حبات الرمال في الصحراء إلى آخر قطرة من دمهم، وكانوا في الجو - وبرغم التفوق المعادى - أساطير للبذل وللفداء وللإقدام، والاندفاع الشريف إلى أداء الواجب أنبل ما يكون أداؤه.
ولم يشأ أن ينهي خطابه دون أن يؤكد على حقيقة مؤداها" إن هذه ساعة للعمل وليست ساعة للحزن، إنه موقف للمثل العليا وليس لأي أنانيات أو مشاعر فردية. إن قلبي كله معكم، وأريد أن تكون قلوبكم كلها معي، وليكن الله معنا جميعاً، أملاً في قلوبنا وضياءً وهدى".
ولأن الشعب المصري أدرك في هذه اللحظة أن سقوط عبد الناصر والقبول برغبته في التنحي. يعني بشكل أو بآخر تحقيق لواحد من أهداف العدوان على مصر وعلى الأمة العربية في ذلك الوقت. فخرج هادرا بملايينه بعد انتهاء الخطاب مباشرة في القاهرة وغيرها من المدن. رافضا أن يترجل الفارس عن صهوة جواده وقت المحنة. كما خرجت الملايين من أبناء الأمة في غير عاصمة عربية تعلن رفضها لرحيل ناصر. وهكذا حاصرته الضغوط فدفعته للاستجابة لأوامر الشعب العربي. آه أستخدم الآن هذه العبارة التي محوت من خطابنا السياسي والإعلامي ونستخدم بدلا منها الشعوب العربية بينما الحقائق تؤكد أننا شعب واحد.
وانطلق عبد الناصر منذ هذه اللحظة في عملية إعادة بناء شاملة ليس للمؤسسة العسكرية فحسب. وإنما لمؤسسات الدولة المصرية منطلقا من عملية نقد ذاتي لما كان يجري داخلها من نشوء دول داخلها.
وتبع ذلك خطوة نوعية تمثلت في تطهير جهاز المخابرات العامة وإعادة بنائه على أسس احترافية ومهنية. ثم الإعلان عن صياغة التنظيم السياسي القائم في ذلك الوقت - الاتحاد الاشتراكي العربي -وهو بالمناسبة لم يكن حزبا بالمعنى المألوف. لكنه كان أشبه بوضعية الجبهة الوطنية التي تضم مختلف التيارات وشرائح المجتمع المصري. ولعل ذلك كان أحد عيوبه الكبرى. فعبد الناصر كان في حاجة إلى تنظيم حزبي خالص مؤمن أشد الإيمان بفكر الثورة وهو ما انتبه إليه. وإن كان بشكل متأخر. عندما أسس التنظيم الطليعي فيما بعد وأهم تطور في هذه الفترة تجسد في إعلان بيان 30 مارس 1968 والذي شكل بداية لتحولات ديمقراطية. ربما رؤي تأجيلها بسبب معطيات الإعداد لمعركة التحرير. لكن البيان على وجه العموم حمل رؤية ناصرية جديدة لبناء الدولة ولمشروع النهوض. وذلك جنبا إلى جنب مع مشروع إعادة بناء القوات المسلحة. وتطهيرها من القيادات المترهلة التي كانت في مراكزها العليا ضمن شلة حكيم للأسف. ما هيأها للدخول سريعا في حرب استنزاف طويلة ضد العدو الرابض على ضفة قناة السويس الشرقية. متخيلا أنه لن يغادرها. والتي شكلت البروفة العملية لحرب أكتوبر في العام 1973 والتي تأسست خططها الحربية على ما قام به عبد الناصر والقيادات الاحترافية للقوات المسلحة وفي مقدمتها الفريق أول محمد فوزي القائد العام والفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان- الذي مررت قبل أيام بالموقع الذي استشهد فيه في الضفة الغربية لقناة السويس خلال زيارة لمشروع القناة الجديدة ضمن أعضاء جمعية خريجي كلية الإعلام - عندما كان يتابع بنفسه الاستعدادات القتالية لجنوده في الجبهة الذين استعادوا روحهم المعنوية العالية، ورغبتهم الجامحة في تحرير ما أحتل من أرض وهزيمة عدو لم يتمكنوا من محاربته خلال عدوان يونيو.
هنا تكمن واحدة من تجليات زعامة ناصر، فقد تمكن من تحويل الهزيمة أو النكسة إلى نقطة انطلاق جديدة، ولم يتوقف عند أوجاعها إلا بالقدر الذي يمكنه من فهمها بعمق تمهيدا للخلاص منها.