الرئيسة \  مشاركات  \  وقفات قرآنية

وقفات قرآنية

08.02.2016
د. أحمد محمد كنعان



لقد أجمع أهل العقول السليمة على مرِّ الأيام والعصور أن القرآن الكريم هو كتاب الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنه معجزته المسطورة الباقية حتى آخر الزمان في مقابل معجزته المنظورة أي "الكون" الفسيح الحافل بالآيات المبهرات .
وقد شاءت حكمته سبحانه ـ بعد أن توقف موكب الأنبياء والرسل عليهم السلام بانتقال النبي الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ـ أن تكون معجزة الرسالة السماوية الخاتمة كتاباً يُقرأ لكي يظل خطاباً إلهياً دائماً للناس إلى يوم القيامة ، على خلاف معجزات الأنبياء من قبل التي كانت معجزات آنية ينقضي أثرها وتأثيرها بانقضائها ، كما كانت مثلاً معجزة إحياء الموتى وإبراء المرضى على يدي نبي الله عيسى عليه السلام ، وكما كانت معجزات نبي الله موسى عليه السلام ومنها عصاه التي انقلبت حية تسعى وغيرها من المعجزات التي شهدها تاريخ النبوات المختلفة ، فتلك المعجزات كانت حجة على القوم المعاصرين لأولئك الأنبياء الذين شهدوا تلك المعجزات ، وليست حجة على غيرهم ممن لهم يشهدوها ، أما معجزة الإسلام الخاتمة فهي كتاب كريم ختم الله به رسالاته السماوية ، ونسخ به الرسالات السابقة ، وبهذا أصبح القرآن الكريم هو المرجع الديني الأخير والوحيد لأهل الأرض ، وقد تكفَّل الله عزَّ وجلَّ بحفظه حفظاً تاماً عن أي نقص أو زيادة أو تحريف أو نسيان ، كما قال تعالى : (( إنَّا نحنُ نَزَّلنا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُون )) سورة الحجر 9 .
وقد أودع الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم من الآيات البيِّنات ما يدلُّ على إعجازه المتجدد على مرِّ العصور ، ليكون حجة دائمة على العالمين إلى يوم الدين ، وتُعَدُّ ظاهرة " الإعجاز العلمي في القرآن الكريم " التي كثر الحديث عنها خلال العقود القليلة الماضية مثالاً ساطعاً على هذا الإعجاز المتجدد ، فقد تضمن هذا الكتاب العظيم حقائق كونية كثيرة لم يستطع العلم كشفها إلا في السنوات الأخيرة ، بعد أن تطورت وسائل البحث العلمي ، وبعد أن توافرت الأدوات والأجهزة والتقنيات الحديثة التي ساعدت في كشف هذه الحقائق ، وكأن هذه الظاهرة جاءت مصداقاً لوصف الحق تبارك وتعالى لهذا الكتاب الكريم بقوله : (( إنْ هُوَ إلا ذِكْرٌ للعَالَمين * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ )) سورة ص 87 ـ 88 ، أي لتعلمن صدق ما أخبركم به هذا الكتاب حيناً بعد حين ، وهذا ما حصل من خلال ظاهرة الإعجاز العلمي التي قدمت لنا ومازالت تقدم يوماً بعد يوم الدليل تلو الدليل على صدق ما جاء في هذا الكتاب الكريم ، ولا ريب بأن هذه السمة المعجزة تعد من أبرز سمات القرآن الكريم ، وسوف تظل كذلك على مرِّ الزمان ، مهما تقدَّم العلم ، ومهما كشف من أسرار هذا الوجود .
وليست ظاهرة الإعجاز العلمي هي الظاهرة الوحيدة في إعجاز هذا الكتاب السماوي الفريد، وإنما فيه ظاهرة معجزة أخرى لاتقل عن تلك، فبما أن القرآن الكريم هو الرسالة السماوية الخاتمة التي سوف تصاحب البشرية إلى قيام الساعة نجد أن نصوصه تمتاز بخصائص بلاغية فريدة جعلته مصدراً لا ينفد للعلم والحِكٓم والتشريع ، ويشهد على هذه السمة عمل المفسرين والفقهاء والعلماء على مر العصور ، ففي كل عصر نجد من هؤلاء من يخرج علينا برؤى واجتهادات جديدة تغاير ما انتهى إليه السابقون ، بالرغم من أن هؤلاء وأولئك قد انطلقوا من النصوص نفسها !!!

وهنا لابد من التأكيد على أن تأويل هذه النصوص ينبغي أن ينضبط بأساليب اللسان العربي لأنها نصوص نزلت باللسان العربي المبين، ومن ثم فإن فهمها الصحيح ( يتوقف على معرفة أساليب البيان في اللغة العربية ، وطرق الدلالة فيها على المعاني ، وما تدل عليه ألفاظها مفردة ومركَّبة .. ولهذا وضع علماء الأصول قواعد وضوابط هي في الحقيقة مستمدة من طبيعة اللغة العربية واستعمالاتها ) ومع تسليمنا بأهمية هذه القواعد والضوابط التي وضعها الأصوليون  للتعامل مع النص القرآني ، فإن هذه القواعد ـ في تقديرنا ـ لا تكفي وحدها للإحاطة بمكنونات النص القرآني واستخراج كل ما فيه من كنوز المعاني والدلالات ، وبما أن هذا الكتاب السماوي سيرافق البشرية حتى قيام الساعة فلا بد أن يكون في نصوصه من القابلية ما يجعلها قادرة على الوفاء بمتطلبات الحياة البشرية وتقلباتها المختلفة وتطوراتهامنذ نزول هذه النصوص وحتى قيام الساعة .
أضف إلى هذا أن القواعد التي وضعها الأصوليون لضبط التعامل مع النص القرآني الكريم قد قيدت العقلية الأصولية بقواعد اللغة والنحو والصرف تقييداً قوياً جعل هذه العقلية تذهل عن الآفاق الواسعة التي ينطوي عليها هذا النص السماوي الفريد ، هذه الآفاق الرحبة التي يمكن استثمارها لجعل النص أكثر استجابة للتفاعل مع الوقائع والحقائق المستجدة على مر العصور ، وبهذا تتحقق سمة الخلود التي تعدُّ من أبرز سمات هذا الكتاب العظيم .
وعلى الرغم من الاهتمام الكبير عبر العصور بتأويل النصوص السماوية، وعلى الرغم من جهود العلماء في ذلك، فقد ظل تأويل النصوص بعامة ، ونصوص الوحي بخاصة ، إشكالية محورية في تاريخ الديانات السماوية المختلفة ، ونعتقد أن الجزء الأكبر من هذه الإشكالية يرجع إلى أن من يتولى عملية التأويل يظل أسيراً لمفاهيم عصره وثقافته الشخصية وثقافة مجتمعه ، أي يظل أسير دائرة مغلقة يتعذر عليه الخروج منها ليبصر الأبعاد الرحبة التي يتصف بها النص السماوي، هذه الأبعاد الطليقة عن حدود الزمان والمكان التي يستمدها من صفات منزِّله سبحانه وتعالى ، ولهذا ظل يظهر في كل جيل مفسرون جدد يحاولون مقاربة تلك الأبعاد ، وهذا ما جعل تاريخ التفسير والمفسرين حافلاً بالكثير من المصنفات التراثية  .
وهنا وقفة لابد منها لبيان الفارق الكبير ما بين النص السماوي باعتباره نصاً مقدساً معصوماً ، وبين التأويلات البشرية التي مهما اتصفت به من أصالة وعمق فإنها تظل عملاً بشرياً يمكن أن يعتريه ما يعتري أي عمل بشري آخر من قصور أو نقص أو عيوب ، وهذا يعني أن مختلف التفاسير والتأويلات البشرية للنص السماوي تبقى عملاً بشرياً قد يقترب من مرامي النص السماوي وقد يبتعد عنها بمقدار ما يتمتع به المفسر من ملكات فكرية ، وبصيرة نافذة ، وثقافة واسعة ، ونعتقد أن هذا هو السبب في ظهور الإشكالية التي أطلق عليها بعض الباحثين المعاصرين وصف (سلطة النص) وهي إشكالية ترجع إلى الخلط ما بين النص السماوي المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وبين التأويلات البشرية لهذا النص التي اكتسبت بمرور الوقت سلطة قاهرة على العقل المسلم فأصبح لا يفرق بينها وبين النص السماوي ، وأدهى من هذا أنه لم يعد يرى في النص السماوي غير ما جاءت به تلك التأويلات البشرية، وترسخ عنده الاعتقاد بأن الخروج عن هذه التأويلات هو خروج عن النص السماوي نفسه ، وهذه نقطة دقيقة يجدر بنا أن نعيها جيداً ، وإلا أصبحنا رهن تلك السلطة ، ووقعنا في قبضة الماضي ، وحوَّلنا النص السماوي الطليق عن سلطة الزمان والمكان إلى نص تاريخي مرتبط بزمن السلف .. نص عاجز عن مسايرة الزمن المتجه أبداً نحو المستقبل !
 ومن المسلمات عند أهل اللغة والبيان والشريعة أن من أبرز الخصائص التي يتفرد بها النص القرآني غناه بالدلالات التي يمكن أن تسفر عن تأويلات متعددة لا تكاد تنتهي على مر العصور ، وهذا ما جعل علماء اللغة يصفون القرآن الكريم بأنه ( سِفْرٌ مفتوحٌ على الزمانِ والمكانِ والإنسانِ ، لا تَنْقَضي عَجَائبُهُ ، ولا يَخلَقُ على كَثْرَةِ الرَّدِّ ، ولا يتوقفُ عطاؤهُ حتى تقومَ الساعةُ )  .
وترجع طلاقة النص القرآني الكريم بصورة أساسية إلى أن معظم نصوصه " ظنية الدلالة " أي قابلة لأكثر من تأويل ، وهذا ما أشار إليه "الإمام علي بن أبي طالب" رضي الله تعالى عنه حين وصف القرآن الكريم بأنه ( حمَّالُ أوْجُهٍ ) ، أي تحتمل نصوصه أكثر من تأويل ، وبسبب هذه السمة الغالبة في نصوص القرآن الكريم كان الإمام عليٌّ رضي الله تعالى عنه يرى أن ( القرآن صامت وإنما ينطق به الرجال ) وهذه السمة التي تغلب على نصوص القرآن الكريم هي التي دفعت بعض العلماء إلى القول بأن كل نصوص القرآن ظنية الدلالة وقابلة لتأويلات متعددة ما عدا ندرة نادرة منها، كما ورد مثلاً عن الفقيه الأندلسي "ابن رشد"  الذي قرَّر في كتابه ( الإحكام في أصول الأحكام ) أن الدين يقوم على أصول ثلاثة لا يجوز التأويل فيها قط ، وهي : الإقرار بوجود الله وبالنبوة وباليوم الآخر ، أي النصوص التي تندرج في إطار العقيدة ، أما ما عدا ذلك من نصوص فقابل للتأويل .
      ومما يؤيد كثرة النصوص ظنية الدلالة في القرآن الكريم تعدد التفاسير التي ظهرت في تاريخنا الإسلامي وماتزال، ويؤيدها كذلك أن الأحكام المتفق عليها بين الفقهاء نادرة ، لأن ظنية الدلالة جعلت كلَّ فقيه يرى في النصِّ تأويلاً غير ما يراه الآخرون ، وقد تبدو هذه الصفة في نصوص القرآن الكريم سلبية للوهلة الأولى ، لأنها تؤدي لتعارض التأويلات ، واختلاف الأحكام المستنبطة منها ، ولأنها تفضي لاختلاف العلماء ، وقد تفضي إلى تنازع الأمة وتفرقها ، إلا أننا عند التدقيق في هذه الصفة نجدها على النقيض من ذلك تماماً ، فهي التي تضفي على التشريع الإسلامي حيويته الفريدة ، وتمنحه القدرة الدائمة على التفاعل المستمر مع تغيرات الزمان والمكان والأحوال ، وهي التي تفتح للعقل البشري الباب واسعاً للتحرك بالنصوص بحثاً عن معضلات الواقع ، وتوفر للمفسر والفقيه مجالاً رحباً للاجتهاد واستنباط الأحكام التي تراعي حاجات الناس المتغيرة على مر العصور ، وهذا ما أشار إليه بعض الفقهاء حين قالوا : ( اعلَمْ أنَّ اللهَ لَمْ يُنَصِّبْ على جميعِ الأحكامِ الشَّرعيةِ أدلةً قطعيةً ، بل جَعَلَها ظنيةً للتوسيعِ على المكلَّفينَ ، لئلا يَنْحَصِروا في مذهبٍ واحدٍ ، لقيامِ الدليلِ القاطِعِ عليهِ )  .
    ولا ريب بأن اختيار الله عزَّ وجلَّ للغة العربية من بين آلاف اللغات البشرية الأخرى لتتجلى كلماته من خلالها يدلُّ دلالة دامغة على ما تتمتع به اللغة العربية من إمكانيات تعبيرية وبلاغية فريدة لا تتوافر في بقية اللغات ، بل إن (اختيار العربية لتكون لغة التنزيل للخطاب السماوي ، أو لتكون لغة خطاب الله الأخير إلى البشر ، له دلالته من أكثر من وجه ، فإذا سلَّمنا أنَّ من مقتضى الخاتمية ، أو من لوازمها ، الخلود ـ والخلود يعني : التجرُّد عن قيود الزَّمان والمكان ، والقدرة على العطاء والإنتاج العلمي والمعرفي ، في كلِّ زمان ومكان ـ أدركنا خلود اللغة العربية ، وسعتها ، ومرونتها ، وقدرتها على تقديم الأوعية التعبيرية ، والاستجابة لكل الظروف والأحوال التي يكون عليها الناس ، والاستجابة للإنتاج الحضاري ، في سائر العلوم والفنون ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها )  .
     وقد توقف بعض المفسرين عند ظاهرة الظنية في دلالات النصوص العربية بوجه عام ، ونصوص القرآن الكريم بوجه خاص ، وانتهوا إلى أن هذه الظنية تعدُّ من أبرز أوجه الإعجاز البياني في القرآن الكريم ، وفي هذا يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى : ( لو كانَ القرآنُ كلُّه مُحْكَماً لما كانَ مُطابقاً إلا لمذهبٍ واحدٍ ، وكان بصريحِهِ مُبطِلاً لكلِّ ما سوى ذلك المذهبِ ، وذلك مما يَنْفِرُ أربابُ سائرِ المذاهبِ عن قَبولِهِ والنَّظَرِ فيه والانتفاعِ بِهِ ، فإذا كانَ مُشْتملاً على المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ طَمِعَ صاحبُ كلِّ مذهبٍ أنْ يجدَ فيهِ ما يُؤَيِّدُ مذهبَهُ وينصرُ مقالتَهُ ، فينظرُ فيه جميعُ أربابِ المذاهبِ ، ويجتهدُ في التأملِ فيه صاحبُ كلِّ مذهبٍ ، وإذا بالغوا في ذلكَ صارت المُحْكَماتُ مُفَسِّرةً للمتشابهات ) ولاحظ معي هذه الوقفة البليغة التي وقف عليها الإمام السيوطي ، وهي أن ظنية الدلالة بما تثيره عند دارسي القرآن الكريم من نظرات مختلفة فإنها يمكن أن توصلهم في نهاية المطاف إلى تفسير ما تشابه منه ، وهي مسألة طالما شغلت بال العلماء !
     من هذه المقدمات تظهر لنا الحكمة الإلهية في جعل معظم نصوص القرآن الكريم ظنية الدلالة ، فهذه الصفة هي التي جعلت القرآن الكريم أهلاًً للتفاعل مع متغيرات الواقع ، مفتوحاً دوماً على الحاضر والمستقبل ، وفي هذا تيسير على الناس ، ورفع للحرج عنهم ، مهما تبدلت أحوالهم وتعاقبت عصورهم .
     ونسارع هنا إلى بيان أن ظنية الدلالة لا تعني أن نصوص القرآن الكريم مفتوحة للتأويل دون ضوابط ، وإلا راح كل شخص يؤول النصوص على هواه ليضفي الشرعية على مذهبه مهما كان فاسداً، ويولد من النصوص المعنى الذي يريد ، ففي هذا المسلك تعسُّف واضح في التعامل مع النصوص ، وقد ناقش الإمام الفقيه "ابن رشد " هذه المسألة في كتابه ( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال ) ووضع لها ثلاثة شروط نلخصها فيما يلي :
• الشرط الأول : احترام خصائص الأسلوب العربي في التعبير ، إذ التأويل ليس شيئاً آخر سوى إخراج اللفظ من الدلالة الحقيقية أو الظاهر ، إلى الدلالة المجازية أو الباطن ، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوُّز من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عوِّدت في تعريف أصناف الكلام المجازي .
• الشرط الثاني : احترام الوحدة الداخلية للقول الديني ، فلا يجوز تضمينه أشياء غريبة عن مجاله التداولي الأصلي كما كان يتحدد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
• الشرط الثالث : مراعاة المستوى المعرفي لمن يوجه إليه التأويل  .
وقد انتهى الإمام الفقيه "ابن حزم " إلى مثل هذه النتيجة كذلك حين قال : ( فلا يَحِلُّ لأحَدٍ صَرْفُ لفظةٍ معروفةِ المعنى في اللغةِ عن معناها الذي وُضِعَتْ لهُ في اللغةِ التي بها خاطَبنَا اللهُ تعالى في القرآنِ ، إلى معنى غير ما وُضِعَتْ لهُ ، إلا أنْ يأتيَ نَصُّ قرآنٍ أو كلامٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماعٌ من علماءِ الأمَّةِ كلِّها على أنها مصروفةٌ عن ذلك المعنى إلى غيره ، أو يُوجِبُ صَرْفَها ضَرورةُ حِسٍّ أو بَديهَةُ عقلٍ ، فيُوقَفُ حينئذ عند ما جاءَ من ذلك )  .
     أما ( الإمام الزركشي )  فقد قدَّم تفصيلاً مختلفاً لهذه الإشكالية البيانية في نصوص القرآن الكريم ، فجعل للتأويل عدة مستويات ، وذهب إلى أن من النصوص ما يحتاج تأويله إلى معرفة بلغة العرب التي بها نزل القرآن الكريم، ومنها ما لا يُعذر أحد بجهالته ، لأن تأويله لا يلتبس على أحد من الناطقين بالعربية سواء كان عالماً باللغة أم عامياً ، ومنها ما يحتاج تأويله إلى علماء مجتهدين تتوافر فيهم أدوات اللغة والفقه والأصول .. وكل لفظ احتمل معنيين فصاعداً فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه ، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل ، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه  .
    ومع موافقتنا على هذه الشروط التي وضعها هؤلاء الأئمة الأعلام لضبط التعامل مع النصوص بعامة ، ونصوص القرآن الكريم بخاصة ، فإننا نرى أن هذه الشروط غير كافية لإدراك مختلف المعاني والمقاصد التي قد ينطوي عليها النص ، ولهذا فإننا نقترح بعض الشروط الإضافية التي نلخصها على النحو الآتي :
• الشرط الأول : أن ننظر إلى نصوص القرآن الكريم في ضوء آيات الآفاق والأنفس ، كما حصل في ظاهرة " الإعجاز العلمي " التي استفادت من معطيات العلوم الحديثة وأعادت على ضوئها تأويل بعض آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الظواهر الكونية ، فكذلك يمكن أن نعيد النظر في تأويل بقية الآيات الكونية والتشريعية ، مستفيدين من نتائج العلوم الحديثة ، ولاسيما منها العلوم الإنسانية ، مثل علم الاجتماع ، وعلم النفس ، وعلم البشريات (الإنثروبولوجيا ) وعلم الاقتصاد ، وغيرها من العلوم المعاصرة التي لم نستثمرها في هذه المسألة حتى الآن ، فهي يمكن أن تضيء لنا جوانب جديدة في تأويل كثير من النصوص، وتحلّ لنا الكثير من المعضلات التي مازالت تواجهنا في تعاملنامع بعض قضايانا المعاصرة
• الشرط الثاني : أن نتعامل مع النصوص على أنها منظومات يرتبط بعضها ببعض بروابط عضوية لا يجوز تجاهلها بحال من الأحوال ، وإلا وقعنا في فخ النظرة التجزيئية للنصوص ، ومن ذلك مثلاً النظر إلى بعض النصوص التي تتعلق بأحكام الأحوال الشخصية بمعزل عن بقية النصوص التي تتعلق بهذه الأحوال ، لأن بين هذه النصوص علاقات عضوية وثيقة تقتضي وجود علاقات مماثلة بين الأحكام المستنبطة منها ، ومن ذلك مثلاً العلاقة بين أحكام الطلاق وأحكام الميراث، ونحوه من المسائل التي يحتاج التفصيل فيه إلى بحث آخر .
• الشرط الثالث : الموازنة الحكيمة بين النص والعقل ، فلا نطلق العنان للعقل حتى يطغى على النص أو يلغيه ، ولا نجعل النص يلغي العقل أو يهمشه .
• الشرط الرابع : فتح باب الحوار للآراء المختلفة لكي يعبر كل منها عن رؤيته في النص ، بشرط أن يلتزم صاحب كل رأي بالقواعد المتعارف عليها في أصول البحث العلمي ، ويكون الترجيح في نهاية المطاف للرأي الذي يحوز الأغلبية، أو رأي الجمهور حسب التعبير الفقهي .
إننا بهذه الشروط يمكن أن نفتح مساحات جديدة لتأويل النصوص ، ونعيد لحركة الاجتهاد حيويتها ونشاطها ، فظاهرة " الإعجاز العلمي " في القرآن الكريم والسنة التي أشرنا إليها آنفاً ، فتحت أذهان الدارسين للقرآن الكريم على ساحات جديدة من الفهم والتأويل لم تكن لتخطر على البال ، وأصبح فهمنا اليوم للآيات التي تتعلق بالظواهر الكونية أكثر وضوحاً ودقة مما كان في الماضي ، فقد أدى الفهم الخاطئ لهذه الظواهر فيما مضى إلى تأويلات غير صحيحة لبعض النصوص السماوية ، كما حصل من أرباب الكنيسة في القرون الوسطى في أوروبا الذين نكَّلوا بعلماء الفلك حين قالوا بكروية الأرض ودورانها حول الشمس ، لأن أرباب الكنيسة كانوا يؤولون نصوص الكتاب المقدس على نحو مغاير تماماً لما توصل إليه علماء الفلك ، ثم أثبت الرصد الدقيق للأجرام السماوية أن هؤلاء العلماء كانوا على صواب ، وأن أرباب الكنيسة كانوا خاطئين !
وقد وقع في هذه الإشكالية نفسها بعض علمائنا الأقدمين الذين أوَّلوا الآيات الكونية الواردة في القرآن الكريم تأويلات لم يحالفها الصواب ، واقرأ معي إن شئت ما سطَّره شيخ الإسلام ( ابن تيمية )  في ( الرسالة العرشية ) ، وما انتهى إليه الإمام القرطبي  عند تفسير قوله تعالى : (( وَهُوَ الذي مَدَّ الأرضَ وَجَعَلَ فيها رواسيَ وأنهاراً .. الآية )) سورة الرعد3 ، فقد كتب يقول : ( في هذه الآية ردٌّ على من زعم أن الأرض كالكرة .. والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدِّها ، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها )  .
إن هذه الأمثلة ـ وأشباهها كثير في القديم والحديث ـ تؤكد الحاجة للتأني بالتعامل مع نصوص الوحي ، لأن معظم هذه النصوص ظنية الدلالة تحتمل أكثر من تأويل كما يقرر أهل اللغة والتفسير والفقه ، بل إن النصوص التي تبدو للوهلة الأولى قطعية الدلالة قد لا تكون كذلك عند إمعان النظر فيها ، وحتى لو سلمنا بأنها قطعية الدلالة فإن دلالتها الظاهرة لا تعني بالضرورة أننا أدركنا كل أبعادها ، بدليل الأمثلة السابقة التي تناول فيها المفسرون نصوصاً تبدو في ظاهرها قطعية الدلالة ، إلا أن الكشوف العلمية اللاحقة أظهرت أنها ليست كذلك ، ولهذا السبب فسرها المفسرون قديماً تفسيرات لم يحالفها الصواب .
ونخلص من هذا إلى أننا لن ندرك المرامي المتعددة للنص القرآني ما لم نراوح النظر ما بين النص وبين المكتشفات العلمية الحديثة التي يمكن أن تكشف لنا الكثير من أسرار النصوص ، وفي هذا الإطار يمكن تشبيه عمل المفسر بعمل الغواص الذي كلما كان لديه المزيد من الأكسجين كلما استطاع أن يغوص أكثر فأكثر في أعماق البحار ، وكذلك المفسر كلما كانت حصيلته من العلوم أوفر كلما استطاع أن يغوص أكثر فأكثر في أعماق النصوص ليستخرج منها اللآلئ والكنوز الثمينة .