الرئيسة \  واحة اللقاء  \  وقفة مع حوادث الإنشقاق عن الجيش اللبناني

وقفة مع حوادث الإنشقاق عن الجيش اللبناني

19.10.2014
د. محمد مصطفى علوش



الشرق القطرية
السبت 18/10/2014
حوادث الانشقاق داخل الجيش تثير حساسية شديدة لدى اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية. فالمؤسسة العسكرية هي الوحيدة من بين مؤسسات الدولة التي مازالت متماسكة، ويقع على عاتقها عبء حماية البلاد وتوفير الأمن لأبنائه وسط محيط يضربه تسونامي من الاضطرابات والحرائق المذهبية والسياسية وهي تتسع دائرتها وتتعمق يوما بعد يوم. وهناك بعد تاريخي مازالت مفاعليه قائمة، فالجيش اللبناني وخلال الحرب الأهلية التي استمرت لعقد ونصف تجزأ فيها واقتتل فيما بينه، وإن كان انشقاقه في الظاهر سياسيا إلا أنه كان انعكاساً لنزاع عميق حول الهوية اللبنانية ووجهتها وليس حول أداء المؤسسة العسكرية وولائها السياسي.
قد يذهب كثيرون يتحدثون عن أن حوادث الانشقاقات القليلة التي طالت المؤسسة العسكرية هي حالات شاذة لا يرتقي الأمر لمناقشتها أو الحديث حولها، فضلا من تصنيفها على أنها ظاهرة بدأت تطال المجتمع اللبناني أسوة بغيرة من الشعوب العربية من حوله سوريا والعراق وغيرها. ويحاول البعض أن يخفف من خطورتها عبر تجاهلها أو تهميشها وهو في الحقيقة إن يُظهر حرصاً على المؤسسة العسكرية ظاهريا إلا أنه يكشف في حقيقية الأمر عن قلق كبير ينتاب المواطن اللبناني. القلق من أن تتكرر تجربة لبنان القديمة التي انقسم فيها البلد بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية طالما أن مفاعيل الانقسام مازالت تختمر في وجدان التربة اللبنانية بما أن جميع المشاكل التي كانت سببا للحرب الأهلية وما تلاها من مشاكل مستجدة لم تحل بطريقة جذرية وإنما تم التعامل معها وفق إستراتيجية إدارة الأزمات واحتواء الصدمات.
نعم المنشقون هم من الرتب المتدنية في الجيش، وينحدرون من مناطق جغرافية يجتاحها الفقر والتهميش الضارب منذ نشأة لبنان وحتى اليوم.. لكن هلا سألنا أنفسنا ما الأسباب الحقيقة المولدة لهذه الحوادث قبل أن تصبح ظاهرة أبعد من الحديث عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية؟
هناك أزمة هوية في وجدان المواطن اللبناني تلحظها في حديث سريع مع أي مواطن. الجميع يدرك المشكلة ويحرص أهل السياسة دون استثناء على عدم الحديث عن هذا الموضوع لأنه بشكل أو بآخر يضعهم في قفص الاتهام ويكشف هول فشلهم.
نعم، بكل صراحة فشلنا في لبنان في تشكيل هوية جامعة تمثل حصانة للفرد اللبناني من الانزلاق إلى متاهات الحديث مجددا عن الهوية.. ولأن مواضيع الهوية والمواطنة والدولة لم تحسم بشكل واضح وعادل وناجز فقد بدأت "الشعوب اللبنانية"، كما يحلو لبعض المفكرين اللبنانيين تسميتها، تبحث كل منها عن هويتها وخصوصيتها. وبدأنا مسارا طويلاً خلافا للمسار التاريخي الطبيعي في تشكل الدول ونموها.
وبدلاً من أن تبحث المجموعات أو"الشعوب اللبنانية" عن القواسم المشتركة بينها وتعززها على حساب المختلف منها والذي ينبغي أن يزداد التهميش له دون قطعه تماما تاركين مهمة قطعه ودفنه للزمن الذي سيتكفل بمزيد من الانصهار بين الشعوب اللبنانية لينتج هوية شعب واحد سرنا في طريق مغاير، فمن يصنع السياسة في لبنان ويحدد الهوية والدولة وتركيبة نظامها السياسي وكيفية إدارة مؤسساتها الدستورية هو المنتصر.. ولم تحسم قضية لبنان إلى عبر البندقية.
الأنا تتضخم عند اللبناني المنحاز للدولة وهو تضخم كاذب ما يلبث أن ينحسر عند أول اختبار له. وأصدق مثال على ذلك أن المناطق والطبقات التي ينحدر منها المنشقون عن الجيش وأولئك الذين يذهبون للحاق بركب جبهة النصرة أو تنظيم داعش هم من المجتمعات التي تتغنى بالوطن وتهلل للدولة وتناشدها أن تأتي إليها وتعطف عليها.
الهوية المذهبية والطائفية هي المحرك الفعلي لأي هوية اليوم في لبنان وخارطة الطوائف اللبنانية هي من ترسم خارطة التحالفات السياسية وتحكم مسارها وتشي بمستقبل مساراتها.. وما اختلاف الشعب اللبناني من الأزمات العربية في المنطقة وانخراطه بدرجات متفاوتة داخلها فاعلا ومنفعلا إلا دليل على مدى هشاشة الهوية اللبنانية التي فشلت الدولة في ترسيخها في وجدان أبنائها. وإذا ما أصررنا مكابرين على عدم معرفة الحقيقية وأبينا التواضع أو الاعتراف بالفشل المتكرر لنا في بناء الدولة والمجتمع الحامي والمنتج لها سنظل كمن يدور في حلقة مفرغة لا يعرف من أين بدأ وأين سينتهي.. وقفة صادقة ومتأنية ودون مكابرة ستكشف لنا الكثير نحن اللبنانيين.. الحقيقة مرة يا سادة.. وقد أزف أوان الاعتراف بها والبناء عليها.. فقط نرجو تصحيح مسار قد ضللننا عنه منذ عقود!.