الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ولكن أين النظام الذي ثرنا عليه؟

ولكن أين النظام الذي ثرنا عليه؟

17.03.2014
غازي دحمان


المستقبل
الاحد 16/3/2014
ينهي السوريون ثلاثة أعوام من ثورتهم باكتشاف هائل، ليس هذا هو النظام الذي ثرنا عليه؟ وهو أمر، بل شك، مخيب للآمال بقدر ما هو مربك، ولعل ذلك ما يفسر حقيقة الإنزياحات التي طرأت على المشهد الثوري بمكوناته وعناصره المختلفة.
قبل ثلاثة أعوام خرج السوريون إلى الميادين والساحات، بصفتهم مواطنين يعيشون ضمن إطار سياسي قانوني عنوانه الرئيس دولة، وهذا ما يفسر الحالة السلمية والقبول بدفع ثمن الاستحقاقات اللازمة والمستوجبة لمثل هذا النوع من الأفعال، فالمواطن اعتبر أن الحكم بينه وبين من تظاهر ضدهم هو ذلك الإطار القانوني وصفته تلك، مواطن، وبالتالي فإن سقف عقوبته سيكون محدودا ومعلوما وممكنا تحمله.
قبل ثلاثة أعوام خرج السوريون إلى الميادين والساحات، ضد ما إعتقدوا انه نظام سياسي وطني، فاسد صحيح، قمعي صحيح أيضاً، وتجاربهم السياسية معه مؤلمة وقاسية، لكنهم اعتقدوا انه بالنهاية نظام، وأن فهمهم السياسي العام يجعلهم يعرفون السقف الذي قد يصل له مدى قمعه ووحشيته تجاههم، وحجم الأثمان التي يترتب دفعها، ستكون مرتفعة بلا شك. وهم جاهزون في سبيل الخلاص من هذا الوجع، الذي صار يعد دائماً بالمزيد من الألم.
في ذلك الحين، كان هناك متشائمون يتوقعون أن النظام سيقتلع البلد بسكانه وحجارته. وكان هناك متفائلون، يتوقعون ما أن تصل الجماهير إلى ساحة الأمويين حتى يخرج أحدهم من القصر ويعلن هرب الرئيس. والأمر حسب هؤلاء، لا يحتاج لأكثر من مقتل بضع عشرات المتظاهرين قبل أن يلقي العسكر سلاحهم، ويتعانقون مع إخوتهم المتظاهرين، لتبدأ سوريا صباح اليوم التالي بلا نظام الأسد!
كان هذان الرأيان موجودين في منتصف آذار 2011، لكن الرأي العام الغالب كان يميل لترجيح مشهد وسطي بينهما، فلا النظام يستطيع تدمير سوريا بالكامل، لأن تلك مهمة لا يستطيع تحمل تبعاتها، إذ لا البيئة الدولية، في زمن سيادة شعارات حقوق الإنسان والشرعية الدولية، تسمح له بهذا الحد، ولا مناخ "الربيع العربي"، الذي يرخي بظلاله على شعوب المنطقة، يتيح إمكانية اغتياله بهذه الطريقة البشعة. من جهة أخرى لا يعني ذلك أن النظام الإستخباراتي القمعي سينهار، بالسهولة التي انهارت بها أنظمة تونس ومصر. الثورة لن تكون رخيصة الثمن، بل سيكون ثمنها مؤلما، لكن ما لابد منه لا بد منه.
هذا الرأي الغالب كان أيضاً يضع في حسابه حقيقة أن من يثورون هم مواطنون، ومن تشتعل الثورة ضده نظام سياسي، مع إدراك الفارق بين مفهومي المواطن والنظام كما هو في سوريا، من حيث الوضع القانوني ودرجة الحقوق وطبيعة التأثير، عما هو موجود ومعروف في العالم المعاصر. الثورة أصلاً حصلت في إطار هذا الفهم، وبهدف تصحيح ذلك الخلل الحاصل في العلاقة، ومن اجل الوصول إلى الوضع الأفضل للعلاقة بين المواطن والنظام.
بعد ثلاث سنوات، توصّل السوريون إلى حقيقة مفارقة تماما لتلك التي كانت بأذهانهم، الطريق إلى هذا الفهم كلفهم رحلة عذاب لم يشهد مثلها تاريخ العلاقة بين المواطن والدولة، في الزمن المعاصر. أكتشف السوريين أن ما ثاروا عليه لم يكن نظاماً ولا دولة، والنتائج تدلل على نفسها، فلا نظام وطني يمكن أن يقدم على كل هذه الأعمال، ولا دولة يكون الشعب أحد أركان شرعيتها ومكوناتها الوجودية، قد تسمح أنظمتها ومؤسساتها وقوانينها بكل تلك الاستباحة للشعب، الذي يفترض أنها تمثله وتحميه! إذاً، ما هذا التشكل الذي انضوى السوريين في إطاره كل تلك السنوات، وما هو شكل العلاقة التي ربطتهم بالمؤسسات والأنظمة الموجودة، بل ما طبيعة تلك الكيانات والأطر أصلاً؟
شرعية هذه الأسئلة تؤكدها بالفعل لحظات التأسيس الأولى للثورة السورية والمسار، الذي سارت عليه لشهور طويلة. ويكفي فحص إحداث تلك المرحلة والفعاليات التعبيرية لها، والشعارات التي تم رفعها وكذا الخطاب السياسي للثوار، للتأكد من حقيقة أن هذه أدوات مواطنين في مواجهة نظام سياسي ودولة. فهل اخطأ السوريون حينها بأدواتهم التعبيرية لأنهم في الأصل كانوا أمام حالة ليست هي الحالة التي تصوروها؟ وما هي الأدوات البديلة التي لو أستعملها السوريون حينها لاستطاعوا من خلالها عبور مرحلتهم تلك، إلى نظام سياسي أفضل، ودولة أكثر انسجاماً، ومواءمة لتطلعاتهم؟ وهل ثمة بالأصل أدوات أخرى ممكنة ومقبولة؟
خرج السوريون إلى ثورتهم، وظنهم أنهم كباقي الشعوب، يمتلكون نظاماً سياسياً ودولة، أليسوا هم جزء من المنظومة العالمية والسياق العالمي، القائم على وجود مؤسسة الدولة كظاهرة سياسية حداثية؟ لم يكن في ظن أحد منهم اختراع إطار جديد غير ذلك الموجود أصلاً. ما كان في البال هو الإصلاح أو التغيير ضمن حدود اللعبة السياسية المعروفة، أياً تكن نسبة ذلك التغيير وحدوده، لكنهم فوجئوا بحالة غريبة يصطدمون بها، حالة دولة ونظام مغايران عما هو معتاد وطبيعي. من السيولة بحيث سهل تحوله إلى أطر مرنة تضيق لدرجة لا تتسع فيها سوى لشخص الزعيم. وفي حالات أخرى لبعض مواليه وأنصاره، وتتسع في صلاحياتها بحيث تتجاوز صلاحيات الدولة الحديثة، وحدود قدرتها على إخضاع مواطنيها، والسيطرة المطلقة عليهم، لدرجة الاستهانة بحياتهم وإنسانيتهم، وأن هذه الدولة قد تكون مغلقة أمام أصغر مطالب مواطنيها، وفي الوقت نفسه لديها القدرة على استدعاء قوى خارجية للقيام بوظائفها كدولة في مواجهة مواطنيها!
سوريا بعد ثلاثة أعوام من الثورة بلد بلا نظام ولا دولة، ميليشيا بشار الأسد ليست نظاما، هي مجرد فصيل بين فصائل كثيرة متحاربة، والمؤسسات التي تسير شؤون حرب هذا الفصيل ليست الدولة السورية، يكفي أن هذه التشكيلات تدير، وبمنهجية، أكبر عملية تهجير وقتل للسوريين. والثورة على عتبة عامها الرابع تجد نفسها في حرب على جبهات عديدة، وقد أربكها ذلك التحول الطارئ على الدولة والنظام. وحتى تتكيف مع تلك التطورات الغرائبية، يلزمها تصحيح الكثير من الإنزياحات الحاصلة في بعض مكوناتها.