الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "يوروفيجن" وأوركسترا تدمر: صواريخ روسيا وموسيقاها

"يوروفيجن" وأوركسترا تدمر: صواريخ روسيا وموسيقاها

17.05.2016
رأي القدس
رأي القدس


القدس العربي
الاثنين 16/5/2016
تحوّلت مسابقة "يوروفيجن" الغنائية، والتي شاركت فيها 26 دولة أوروبية وغير أوروبية، مساء يوم السبت الماضي إلى حلبة للصراع بين روسيا وأوكرانيا انتهت بفوز مغنية أوكرانية من تتار شبه جزيرة القرم بالمسابقة، وذلك بفضل التصويت المكثّف للمشاهدين في البلدان المشاركة.
في أغنيتها المعنونة "1944" قدّمت المغنّية جامالا آلام شعب شبه جزيرة القرم الذين أجبروا في عملية تهجير جماعي لقرابة ربع مليون شخص عام 1944 على الخروج من بلادهم ما أدّى إلى مقتل الآلاف منهم، وقد استلهمت المغنّية قصة أخت جدّتها التي ماتت هي وأطفالها الخمسة خلال فترة التطهير القوميّ تلك.
أثر الأغنية السياسيّ والدعائيّ أخذ بعداً كبيراً بعد حصول أوكرانيا على المركز الأول، وهذا أضاف الملح إلى جرح القيادة السياسية الروسية التي أحست باستهداف الزعيم الروسي فلاديمير بوتين من خلال المقارنة التي تفرض نفسها بين أفعاله الحاليّة (إلحاق شبه جزيرة القرم بروسيا عام 2014 واضطهاد تتار القرم) بأفعال الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين قبل 70 عاماً (تهجير الشعب نفسه).
رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الروسي قسطنطين كوساتشيف قال إن "الجغرافيا السياسية فازت"، فيما صرّح عضو آخر بأن "السياسة هزمت الفن"، وهما قولان مثيران للسخرية حقّاً لأن موسكو كانت دائماً تستغل "الجغرافيا السياسية" لخدمتها في مجال استخدام الفن في السياسة، والعديد من حالات التصويت لروسيا تخضع لهذا المنطق، كما حصل أمس في تصويت أذربيجان لروسيا، بل إن 12٪ من أصوات الأوكرانيين المؤيدين للكرملين ذهبت لصالح المغنّي الروسي.
أحد أسوأ أشكال هذا الاستخدام ظهرت في قيام فرقة أوركسترا روسية بأداء حفل موسيقيّ في الخامس من الشهر الجاري (يوم عيد الشهداء في سوريا وعيد النصر في روسيا) في مدينة تدمر بعد إخراج تنظيم "الدولة الإسلامية" منها، التي خاطب فيها فلاديمير بوتين الجمهور عبر جسر تلفزيوني شاكراً القائمين على "المبادرة الإنسانية الرائعة".
الفعالية الموسيقيّة  السياسيّة الروسية جرت خلال الفترة نفسها التي كانت فيها مدينة حلب السوريّة تُحرق بقصف مروّع مغطّى روسيّاً مما استدعى حملة عالمية للدفاع عنها، واعتبر الكثيرون الفعالية الموسيقية تلك استهانة فظيعة بالدماء والخراب الهائل للبلاد من أجل خدمة هدف سياسيّ وإعلاميّ فجّ يستثمر في مصائب الشعب السوري.
كشف حدث "يوروفيجن" (ربّما للمرّة الأولى في تاريخ المسابقة التي حاولت دائماً الابتعاد عن السياسة المباشرة) عن الخطّ الإنسانيّ العميق الذي يربط الفنّ الحقيقيّ الصادر من أعماق الذات البشرية (كما قدّمته أغنية 1944) مع آمال الشعوب بالتحرّر من الظلم. لقد نسجت جامالا من تاريخها الشخصيّ الذي يجمع بين كونها تتارية (من ناحية الأب) وأرمنية (من ناحية الأم) مزيجاً هائلاً من الألم التاريخي وحوّلته إلى حدث فنيّ كبير شهد عليه مئات ملايين المشاهدين، وهو أمر، من الطبيعيّ، أن يُشعر من ارتكبوا المظالم، ماضياً وحاضراً، بالحرج والعار.
يبقى القول إن حدث التهجير الجماعيّ لشعب يتصادى مع نكبة فلسطين التي نستعيد هذه الأيام ذكرياتها المؤلمة بطرق فنّية مبدعة ونضاليّة عديدة (وكذلك مع حدث الهجرة الهائل للسوريين والعرب في البلدان المنكوبة حاليّاً) مما يُلهمنا، كفلسطينيين وعرب، أن نحاول ابتكار أساليب فنّية تصل إلى أكبر عدد من سكان الأرض، كما فعلت جامالا.