الرئيسة \  تقارير  \  يوم أُنزل العلم السوفياتي

يوم أُنزل العلم السوفياتي

09.02.2022
سيرج شميمان


سيرج شميمان* – (نيويورك تايمز) 31/1/2022
الغد الاردنية      
الثلاثاء 8-2-2022
عند تمام الساعة 7:32 من مساء يوم 25 كانون الأول (ديسمبر) 1991، أُنزل العلم السوفياتي فوق الكرملين، وحل مكانه العلم الروسي لما قبل الثورة، المكون من خطوط أفقية بيضاء وزرقاء وحمراء. كانت تلك لحظة بالغة الأهمية، ولكن لم يشهدها سوى حفنة من الأجانب ومحارب سوفياتي قديم غاضب في الساحة الحمراء.
أعرف هذا لأن هؤلاء الأجانب كانوا زوجتي وأولادي، الذين هتفوا ابتهاجاً عندما ارتفع العلم الجديد في سماء الليل وحدد الوقت. في ذلك اليوم قبل 30 عامًا، ألقى ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم سوفياتي، خطابه الوداعي واستقال -وهو السبب في أنني لم أكن في الساحة الحمراء مع عائلتي.
في ذلك المساء، كتبتُ في صحيفة “التايمز” نعيًا للدولة السوفياتية: “بعد أن خرج إلى الوجود متخيَّلاً في وعد طوباوي، ومولوداً في الاضطرابات العنيفة لـ”ثورة أكتوبر العظمى” في العام 1917، لفظ الاتحاد نفسه الأخير في الظلام الكئيب في أواخر كانون الأول (ديسمبر) 1991، مجرَّداً من الأيديولوجية، مقطَّع الأوصال، مفلساً وجائعاً -لكنه كان مهيباً حتى في سقوطه”.
مثل الكثير من الغربيين في ذلك الوقت، كنت متفائلًا شخصيًا بأن انهيار الشيوعية سوف يؤذن بقدوم حقبة من الدمقرطة الثابتة -“نهاية التاريخ”، كما أعلن فرانسيس فوكوياما بتلك الطريقة التي لا تُنسى، وإنما قبل الأوان بكثير. لكن الأصوات الروسية التي سمعتها كانت أقل تفاؤلاً. حذرت صحيفة “إزفستيا” اليومية الحكومية من أن “الانفصال عن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية سيكون عملاً طويلاً وصعبًا”. كانت الدولة السوفياتية قد حرمت الناس من الحرية، لكنها أعطتهم شيئًا آخر في المقابل: فخر القوة العظمى -قوة كانت، كما كتبت “إزفستيا”، “مساوية للقومية” وقادرة على توحيد “الملايين من المؤيدين المتعصبين”.
من المشكوك فيه أن تكون حكومة فلاديمير بوتين قد وضعت هذه الذكرى في ذهنها في الثلث الأخير من كانون الأول (ديسمبر) عندما قامت بإغلاق “منظمة ميموريال الدولية”، أبرز منظمة لحقوق الإنسان في روسيا، أو عندما حشد الكرملين قواته على الحدود الأوكرانية بغية ابتزاز الغرب ودفعه إلى الابتعاد عن أوكرانيا. لكن هذه الإجراءات قدمت تأكيدًا محزنًا على نذير “إزفستيا”.
كانت “ميموريال” نتاجًا لآمال أواخر الثمانينيات والتسعينيات، وهي منظمة فضفاضة الهيكلية، تهدف إلى تحديد وإحياء ذكرى ملايين ضحايا التطهير الستاليني ومعسكرات العمل. وبعد أن تغاضت عنها الحكومة في الأصل، ثم تم التسامح معها على مضض مع تحول الكرملين إلى القمع باطراد، قام السيد بوتين في النهاية بإبعادها إلى سلة مهملات المنظمات المدنية التي تُعرَّف الآن بأنها “العملاء الأجانب” ومؤيدو “الإرهاب”. وكانت لهذه التهم جميع السمات التي ميزت الكلام السوفياتي المزدوج -كانت “ميموريال” إلى حد كبير رد فعل محليا على إرهاب القمع السوفياتي.
ربما لم يكن إغلاق “ميموريال” في وقت يشهد توترًا شديدًا بشأن حشد القوات الروسية على طول الحدود الأوكرانية، متعمدًا، ولكنه لم يكن مصادفة أيضاً. على مدى العامين الماضيين، شدد السيد بوتين قبضته على السلطة بشدة، ودفع بتعديل دستوري من أجل السماح له بالبقاء في السلطة فعلياً لبقية حياته، وسجَن أليكسي نافالني المعارض، وزاد من حدة الخطاب المعادي للغرب.
وتزامنت العدوانية المتكثفة مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض -الذي وضع حدًا للاحترام الخيالي الذي أظهره دونالد ترامب لبوتين- وخروج أنجيلا ميركل، التي كانت قد شكلت الكثير من ملامح سياسة أوروبا تجاه روسيا، من السلطة في ألمانيا.
منذ بداية العام 2021، كتب فلاديمير فرولوف، الدبلوماسي الروسي السابق في واشنطن، أن الكرملين تبنى استراتيجية جديدة تجاه الغرب، والتي أطلق عليها، سواء انطوى ذلك على مفارقة أم لا، “الانفراج 2.0”. وكتب فرولوف في الموقع الروسي Colta.ru، أن أهداف السياسة الجديدة هي استقرار العلاقات مع الغرب بشروط مواتية لروسيا -حيث يشكل حياد أوكرانيا هدفًا رئيسيًا- وضمان حصول موسكو على مكانة جيوسياسية مساوية لتلك الخاصة بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الشؤون الدولية.
وجادل السيد فرولوف بأن وراء هذا التغيير اقتناع بوتين بأن الجهود المبذولة للاقتراب من الغرب وقبول القيم الغربية لحقوق الإنسان لن تؤدي إلا إلى تقويض الدولة الروسية. وعلاوة على ذلك، اعتقد الكرملين أنه على عكس ما كان عليه الحال قبل 30 عامًا، أصبحت الولايات المتحدة وحلفاؤها الآن في حالة تدهور وحريصين على التحول نحو الصين، وبالتالي أصبحوا على استعداد لدفع ثمن الانفراج مع روسيا. وكتب السيد فرولوف أن “استراتيجيتنا هي أن روسيا دائماً على حق” قد أصبحت الشعار الجديد.
إذا كان هذا هو ما يعتقده السيد بوتين وزمرته حقاً، فإنهم قد يجدون أنفسهم وقد وقعوا في خطأ عميق. إن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفياتي. فاقتصادها أكثر هشاشة وانكشافاً أمام العقوبات الغربية، وما تزال الولايات المتحدة وحلفاؤها، بغض النظر عن مشاكلهم الداخلية، قادرين على إلحاق المزيد من الضرر الاقتصادي بها. ولا تستطيع روسيا التحكم في المعلومات أو تعرض مواطنيها للعالم الخارجي بالطريقة التي استطاع الاتحاد السوفياتي أن يفعل؛ فمثل مواطني الكثير من دول العالم، يحصل الروس الآن على معظم معلوماتهم من الإنترنت، وهم يسافرون بحرية نسبية.
إضافة إلى ذلك، تفتقر روسيا في عهد السيد بوتين إلى الأساس الأيديولوجي الذي وفره الاتحاد السوفياتي لقادته لكي يبرروا احتكارهم للسلطة. وهو مجبر على التمسك بالمعايير الديمقراطية حتى عندما ينتهكها في تمثيلية مكشوفة يمكن أن يرى حقيقتها معظم الروس. وبغض النظر عن القدر الكبير من مشاركة الروس ادعاء بوتين بوجود علاقة أخوية خاصة مع أوكرانيا، فإنه ليس ثمة ما يوضح كيف سيكون رد فعلهم في حال حدوث توغل عسكري علني في أوكرانيا.
ولكن يجب على الغرب أيضًا إدراك أن تهديدات روسيا ومطالبها ليست فارغة تمامًا، وأن نفوذه على روسيا، بعد استبعاده الرد العسكري، سيكون محدوداً في أحسن الأحوال. ومع ذلك، هناك طرق يمكن للولايات المتحدة من خلالها نزع فتيل التوترات من دون قبول مطالبة روسيا المستحيلة بمعاهدة رسمية تعترف بمجال نفوذ روسي على أراضي الاتحاد السوفياتي السابق.
بعد محادثة هاتفية استمرت 50 دقيقة بين الزعيمين، قال المتحدثون باسم الرئيسين بايدن وبوتين إنهما كررا التهديدات القوية نفسها. لكن حقيقة المكالمة، التي كانت الثانية خلال شهر كانون الثاني (يناير)، وخطط المحادثات الأمنية بين الولايات المتحدة وروسيا، وروسيا وحلف الناتو في الأيام التالية هي الخطوات في الاتجاه الصحيح -تحويل الأزمة إلى دبلوماسية وإظهار أن الغرب مستعد لأخذ المصالح الأمنية الروسية على محمل الجد.
وتستطيع واشنطن أيضًا أن تحث أوكرانيا على اتخاذ بعض الخطوات تجاه خفض التوترات. وقد اقترح صمويل تشراب، من مؤسسة “راند”، أن تحث الولايات المتحدة كييف على اتخاذ بعض الخطوات نحو الوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاقية “مينسك” الثانية التي أصبح عمرها الآن ست سنوات. ودعت تلك الاتفاقية أوكرانيا إلى تفويض بعض السلطات للمناطق التي يسيطر عليها المتمردون في شرق أوكرانيا، والاعتراف فعليًا بوضعهم الخاص، مقابل انسحاب روسيا من منطقة الحدود. وتبقى مقاومة أوكرانيا للاتفاقية مفهومة، لكن بعض التحرك بشأنها قد يحول المواجهة الحالية للأزمة نحو الدبلوماسية.
إن مكانة القوة العظمى، كما لاحظت صحيفة “إزفستيا” قبل ثلاثة عقود، هي عادةٌ يصعب التخلص منها، ويتعين على الغرب أن يبدد أوهام السيد بوتين الإمبريالية. لكن إجباره على تنفيذ تهديده بشأن أوكرانيا سيكون مناورة خطيرة، كما حذر السيد فرولوف، مستذكرًا مبدأ إدارة أوباما القائل إن “القوى العظمى لا تخدَع ولا تتظاهر”.
                                      
*عضو في هيئة تحرير صحيفة “نيويورك تايمز”. انضم إلى الصحيفة في العام 1980، وعمل كرئيس لمكاتبها في موسكو، وبون، والقدس وفي الأمم المتحدة. شغل منصب محرر الصفحة الافتتاحية لصحيفة “إنترناشونال هيرالد تريبيون” في باريس من 2003 إلى 2013.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Day the Soviet Flag Came Down