الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في‎ ذكرى الوحدة المصرية- السورية

في‎ ذكرى الوحدة المصرية- السورية

26.02.2014
د. أحمد يوسف أحمد


الاتحاد
الثلاثاء 25/2/2014
منذ أيام قليلة مرت الذكرى السادسة والخمسون للوحدة المصرية- السورية، وأصبحت هذه الوحدة تاريخاً ولكن أهميتها الباقية أنها أثبتت أن الوحدة العربية ممكنة، غير أنها في الوقت نفسه تركت دروساً بالغة الأهمية للعمل الوحدوي العربي. بدأت مقدمات الوحدة تتبلور مع السياسة الخارجية الاستقلالية لعبد الناصر، كما بدت في معاداة الأحلاف، وكذلك صفقة الأسلحة مع الاتحاد السوفييتي في 1955، وقرار تأميم الشركة العالمية لقناة السويس، وما أعقبه من أزمة وعدوان السويس في 1956 وتصدي مصر لهذا العدوان وبروز القيادة الكاريزمية لعبد الناصر. كان رد فعل الشعب السوري وقواه السياسية القومية بالغ الحماس، والواقع أن مقدمات الوحدة تزامنت مع هذه التطورات، فوقعت الحكومتان السورية والمصرية بعد الموقف المصري المعادي للأحلاف الغربية في فبراير عام 1955 بأيام بياناً مشتركاً بأسس التعاون بينهما في مجال السياسة الخارجية، وكذلك في المجالين الاقتصادي والعسكري، بما في ذلك إنشاء قيادة مشتركة دائمة. وفي أعقاب صفقة السلاح المصرية مع الاتحاد السوفييتي في سبتمبر 1955، وقعت مصر وسوريا اتفاقية دفاع مشترك في الشهر التالي. ومع العدوان على مصر في خريف 1956، بلغ التضامن السوري مع مصر ذروته، وبالذات بتدمير سلاح المهندسين السوري محطات ضخ النفط في الأنابيب التي تنقل نفط العراق إلى الدول الأوروبية. وفي أكتوبر من العام التالي، وصلت قوات مصرية إلى اللاذقية كتعبير عن المساندة المصرية لسوريا في مواجهة التحرشات التركية، وكان لهذه الخطوة فعل السحر في الجماهير السورية، وفي الشهر التالي، أصدر مجلس النواب السوري قراراً بحضور أربعين من أعضاء مجلس الأمة المصري، يعلن رغبة الشعبين في الوحدة ويدعو حكومتيهما إلى الدخول فوراً في مباحثات تحقق هذا الغرض.
لم تترتب الوحدة المصرية- السورية إذن على حضور وفد من المجلس العسكري السوري فجأة إلى القاهرة في منتصف يناير 1958 وإنما كانت لها مقدماتها، وكان الجدل كله يدور حول مسألتين: توقيت الوحدة وصيغتها. أما عن التوقيت فإن الوفد السوري كان يريد وحدة فورية، فيما كان عبدالناصر يرى أن تتم تدريجياً في خمس سنوات، وأما بخصوص الصيغة، فيبدو أن عبدالناصر كان أميل إلى الصيغة الفيدرالية، غير أن الوفد السوري أصر على فورية الوحدة وصيغتها الاندماجية وضغط على عبدالناصر بأنه ما لم تتم الوحدة على هذا النحو، فإن سوريا ستكون مهددة بالسقوط، إما في براثن القوى الموالية للغرب أو القوى الشيوعية، ما يمثل ضربة للمشروع العربي لعبد الناصر. وعند هذا الحد قبل عبدالناصر وجهة نظر الوفد العسكري السوري، وإنْ أصر على شرطين ضروريين من وجهة نظره لحماية الوحدة، أولهما حل الأحزاب السورية تأسياً بمصر، والثاني امتناع الجيش السوري عن التدخل في السياسة، وعندما وافق الوفد السوري على الشرطين أصبح الأمر منتهياً. ونُظم استفتاء في 21 فبراير وافق على الوحدة وعلى اختيار جمال عبدالناصر رئيساً لها بأغلبية تشبه الإجماع.
كان نظام دولة الوحدة رئاسياً، ما يعني سيطرة عبدالناصر على السلطة التنفيذية، ولكن الدستور المؤقت الذي أصدره في مارس 1958 أعطاه كذلك سلطة تعيين أعضاء السلطة التشريعية، وهو ما لم يحدث إلا في يونيو 1960، أي أن دولة الوحدة عاشت ما يزيد على سنتين من دون سلطة تشريعية أصلاً، ناهيك عن فعاليتها، ويعني هذا أن كل العبء في إدارة دولة الوحدة قد وقع على كاهل عبدالناصر الذي كان قلقاً فيما يبدو بشأن مستقبل هذه الإدارة، فانتقل فيها من صيغة الوزارة المركزية الواحدة إلى وزارة مركزية، إضافة إلى مجلس تنفيذي لكل إقليم، ثم عاد إلى صيغة الوزارة الواحدة في 16 أغسطس عام 1961. وكان هذا الانتقال في الغالب لمواجهة مشكلات اعترضت مسار العمل الوحدوي، بالإضافة إلى محاولة عبدالناصر ضمان سلامة هذا المسار بوسائل أخرى، كتعيين محمود رياض -آخر سفير لمصر في سوريا قبل الوحدة- مستشاراً له في دمشق، وتشكيل لجنة ثلاثية برئاسة عبداللطيف البغدادي بغرض دفع عملية الإنتاج في الإقليم السوري، وأخيراً تعيين عبدالحكيم عامر نائباً وحيداً له في سوريا بسلطات رئيس الجمهورية، وكلها صيغ باءت بالفشل.
تجمعت نذر الانفصال قبيل وقوعه، غير أنه كان واضحاً أن كلاً من عبدالناصر وعامر لم يكن يصدق أن هذا يمكن أن يحدث، وعندما وقع انقلاب الانفصال في 28 سبتمبر 1961، حاول أن يواجهه ناصر بخطابين في الإذاعة، أحدهما فور وقوع الانقلاب والثاني مساء اليوم نفسه، وفي هذا الخطاب رفض الحلول الوسط مع قادة الانقلاب. وبعدها بدأ التفكير في البديل العسكري على أساس استمرار حاميتي حلب واللاذقية في مقاومة الانقلاب، وأرسلت بالفعل قوات محمولة جواً وبحراً إلى سوريا، غير أن عبدالناصر عدل عن هذا البديل عندما انضمت الحاميتان إلى الانفصاليين، وفي 5 أكتوبر أعلن قبوله بالواقع الجديد في سوريا. تعددت الاجتهادات في أسباب الانفصال، غير أن أهمها في رأيي هو الضعف المؤسسي البيّن لدولة الوحدة، وهذا هو أثمن دروسها: أن قائداً تاريخياً بقامة عبدالناصر وهامته لم يكن بمقدوره وحده حماية الوحدة دون مؤسسات قوية، وكذلك كان لانقسام الفصائل القومية في دولة الوحدة آثاره الكارثية وبصفة خاصة بين عبدالناصر وحزب "البعث"، حيث كان الحزب يرى أنه الشريك لعبد الناصر في حكم دولة الوحدة، ولكن الأخير كان يرى أن القوة القومية تتجاوز حزب "البعث"، وبلغ الصدام ذروته بتقديم المسؤولين البعثيين في بنية الدولة استقالتهم في ديسمبر 1959. وأخيراً لا بد من الإشارة ضمن الأسباب المهمة للانفصال إلى أن البيئة الخارجية لدولة الوحدة كانت غير مواتية، بل معادية عربياً وإقليمياً وعالمياً. ولكن كانت لدولة الوحدة إنجازاتها المحققة أيضاً، وبالذات في مجال الأمن القومي العربي، فقد عكست المواجهات العسكرية كافة مع إسرائيل على الجبهة السورية الوضع الاستراتيجي الجديد، بمعنى اضطرار إسرائيل إلى التحسب لمواجهة جبهتين في وقت واحد. كما أن مرحلة الوحدة قد أحدثت تغييرات مؤسسية اقتصادية جذرية تركت بصماتها على الحياة الاجتماعية- الاقتصادية منذ ذلك الحين، كما أن أسس التوسع الصناعي في سوريا وضعت في سنوات الوحدة، وكذلك اتُخذت إجراءات الإصلاح الزراعي التي حققت قدراً يعتد به من العدالة الاجتماعية للفلاحين السوريين.
وفي أعقاب الانفصال، تراجع العمل الوحدوي العربي، فقل عدد المحاولات الوحدوية، كما أنها ابتعدت عن الصيغة الاندماجية باستثناء الوحدة اليمنية التي أخذت بها وتعرضت بدورها لمحاولة انفصال تم وأدها عسكرياً، ولكن تداعيات العمل العسكري أوجدت مظالم في جنوب اليمن تصاعدت حتى وصل الأمر إلى مطالب مسلحة بالانفصال لم يمكن مواجهتها إلا بالصيغة الفيدرالية، وعلى الرغم من أنها تبدو الصيغة المثلى للعمل الوحدوي العربي، إلا أن ثمة مخاوف من أنها في أعقاب التجربة العراقية باتت انفصالاً مغلفاً، وتضاف إلى هذا مخاطر التفكيك التي باتت أكثر من دولة عربية تتعرض لها، فهل انتفعنا حقاً بدروس الوحدة المصرية- السورية؟