الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في الثورة السورية المظلومة

في الثورة السورية المظلومة

09.12.2013
هوشنك أوسي


المستقبل
الاحد 8/12/2013
إذا أصبحت الحياة في بلد كسوريا، يمرّ بثورة على نظام وحشي، ضرباً من الجحيم، يستحيل العيش فيها، لا يعني ذلك سحب وصف "الثورة" من الحدث السوري العظيم. لأن الثورة على نظام وحشي، من طينة النظام الأسدي (الغنّي عن الشرح والتحليل والتوصيف)، معطوفاً على أخطبوطيّة علاقاته المحليّة والإقليميّة والدوليّة، ليس من المستغرب أن تنزلق هي أيضاً نحو التوحّش، نتيجة جملة من العوامل الذاتيّة والموضوعيّة الدافعة لها لتكون "فعلاً منعكساً" للنظام، يوازيه في الشدّة والضراوة، ويعاكسه في الاتجاه. وعليه، انزلاق سوريا نحو المزيد من الجحيم السياسي والعسكري والاجتماعي والنفسي والإعلامي والثقافي والتعليمي... من المفترض ألا يدفعنا للقول: إن ما يجري في سوريا ليس بثورة.
أمّا ما صاحب، ويصاحب، هذه الثورة من آلام وعذابات وانتهاكات واختراقات واستثمارات وتطفّل...، وانزلاق نحو الحرب الأهليّة - الطائفيّة، وتغوّل إسلاموي، بفعل الأدوار الخارجية، كل ذلك، هي مرحلة عابرة، شهدتها مثلاً الثورة الفرنسيّة أيضاً. ذلك أن الثورة، كفعل اجتماعي - اقتصادي - سياسي - ثقافي ونفسي... ليس بذلك القدر من الشاعريّة والمخمليّة والرومانسيّة الحالمة، بشكل عام، وفي الواقع السوري على وجه التخصيص، إذا ما أدركنا حجم همجيّة نظام الاسد الأب والابن، والمنظومة والبنيّة القوميّة - الطائفيّة - العائليّة - الشخصيّة، الأمنيّة الشموليّة، التي ارتكز عليها في حكم سوريا طيلة عقود، معززاً ومدعوماً بهذا القدر من مساندة حلف روسيا - ايران - حزب الله و"العلمانيين العرب" في مصر وتونس والجزائر! فالثورة الفرنسيّة سنة 1789 التي أطاحت النظام الملكي، في بدايتها لم تكن سلميّة، خالصة، وتظاهراتها ومظاهرها كانت مشوبة بممارسة العنف، رغم شعاراتها "الحريّة، الأخوّة، المساواة"، وأدخلت البلاد في حرب أهليّة استمرّت عقداً من الزمن (1789 - 1799)، ورغم إعلانها النظام الجمهوري في سبتمبر 1792، إلاّ أنها ساهمت في عودة الملكيّة ومجيء نابليون للحكم. وأعيد النظام الجمهوري (1848 - 1852)، ثم عادت فرنسا للملكيّة (1852 - 1870). ناهيكم عن الحروب التي شهدتها أوروبا على خلفيّة الثورة الفرنسيّة، وحجم التدخّلات الإقليميّة - الأوروبيّة لوأد الثورة في مهدها، لئلا تنعكس على البلدان المحيطة بفرنسا (النمسا، ايطاليا، اسبانيا، بريطانيا...). وعليه، إذا كان المؤرّخون وعلم الاجتماع السياسي قد أطلق وصف الثورة على ما شهدته فرنسا وقتئذ، ينسحب ذلك على الثورة السوريّة أيضاً. فإذا لم يكن ما يجري في سوريا ثورة، فالذي جرى في فرنسا وروسيا وفيتنام وكوبا والصين والجزائر... لم تكن ثورات.
وما يجعل من الحدث السوري ثورة بامتياز، بعيداً من التعريفات النمطيّة لماهيّة الثورة والتعريف اليساري - اللينيني لها "لا حركة ثوريّة من دون نظريّة ثوريّة"، هو تعريتها ليس للنظام السوري وحسب، وإشهار وجهه الدموي والبربري والطائفي القبيح، وفضح منسوب الدجل والتضليل الذي مارسه طيلة عقود حكمه، بل كون هذا الحدث فضح النخب الثقافيّة السوريّة والعربيّة المتواطئة والمتورّطة، بشكل أو بآخر، في تغذية ديمومة الاستبداد والفساد. إلى جانب فضح هذا الحدث "قذارة" النظام العالمي والمجتمع الدولي ولهاثه وتهافته على المصالح حتّى لو كانت على جثّة الشعب السوري برّمته. وعليه، لا مبالغة في القول: إن أهمّ وأبرز وأكثر ثورة شهدها العالم، ساهمت في تعرية العالم وفضح المجتمع الدولي ومنسوب النفاق والدجل والتضليل والتواطؤ فيه، هي الثورة السوريّة. وإذا كانت للثورة الفرنسيّة، على ما جرى فيها من قبائح وفظائع ومذابح وحروب...، كل ذلك التأثير على فرنسا وأوروبا، فسيكون للثورة السوريّة ذلك التأثير العميق والجذري في الشرق الاوسط والعالم العربي، ولو بعد عشرات السنين. والسؤال هنا: لو كان جان جاك روسو ورموز التنوير الفرنسي والأوروبي الذين لم يشهدوا الثورة الفرنسيّة وقتئذ، لو كانوا أحياء، وشاهدوا مجريات الثورة وانزلاقاتها وانحرافها عن أهدافها، وتلك الفظائع والجرائم التي شهدتها، وتصفية رموز الثورة لرفاقهم بعضهم لبعض، هل كان روسو سيكتب "العقد الاجتماعي" وسيكون موالياً للاطاحة بالنظام الملكي - الكنسي، ومع الثورة؟ أم سيتحسّر على النظام السابق، ويندم على ما طرحه من أفكار ثوريّة، ساهمت في ولادة هذا الانقلاب الاجتماعي - السياسي الذي أفضى إلى ما أفضى إليه من حروب وويلات؟!
ما هو مفروغ منه أن الثورة السورية، ظُلمت كثيراً، وما زالت تتعرّض للظلم، سواء من المعارضة السوريّة ومن التنظيمات الإرهابيّة الإسلاميّة - القاعديّة، ومن الدول الأقليميّة والعربيّة (بإمكان دول الخليج تهديد روسيا بتجميد الاتفاقيّات الاقتصاديّة معها، لكنها لم تفعل ذلك) ومن الشعوب العربيّة (حتّى الآن، لم تشهد عاصمة عربيّة تظاهرة مؤيّدة للثورة السوريّة)، ومن المجتمع الدولي، نتيجة تشابك المصالح. وحتّى من النخب العربيّة. وعلى سبيل الذكر لا الحصر: موقف الكثير من النخب المصريّة السلبي من الثورة السوريّة ودعمها لنظام الأسد. فإذا كان أخوان سوريا، تضامنوا مع أخوان مصر، فهذا ليس مبرراً سياسيّاً ولا ثقافيّاً وأخلاقيّاً لتدير النخب المصريّة ظهرها للثورة السوريّة، وينزلق الحال ببعض "المبدعين" المصريين للظهور على شاشات التلفزة الأسديّة دعماً لنظام الأسد. ذلك أنه كيف لشخص أن يكون ضدّ نظام مبارك، وضد حكم المرشد والأخوان، ويكون في الآن عينه مع نظام الأسد؟!
مقصد الكلام: الثورات لا يقوم بها ملائكة، ولا سطوة الشياطين وسيطرتهم عليها، لفترة معيّنة، يجرّدها من استحقاق الثورة. الثورات ليست قصائد شعر ويوتوبيّات. وعليه، فظائعها لا تبطلها. وحتّى عدم تحقيقها لأهدافها، لا يبرر لنا المجازفة بوصفها ما يخالف جوهرها، باعتبارها محاولة اجتماعيّة - اقتصاديّة - سياسيّة وثقافيّة لأحداث تغيير جذري في بنية مجتمع ما، وإجراء تحوّل نوعي في سلطته ودستوره وقيمه.