الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في المعاني الكبرى للمواجهة مع (داعش) في سوريا

في المعاني الكبرى للمواجهة مع (داعش) في سوريا

27.01.2014
د. وائل مرزا


المدينة
الاحد 26/1/2014
في المعاني الكبرى للمواجهة مع (داعش) في سوريابنظرةٍ شاملةٍ وطويلة المدى، قد تكون مواجهات الفصائل الثورية السورية العسكرية مع داعش مفرق طريقٍ استراتيجي فيما يتعلق بإنهاء كل ما له علاقة بالفهم الإسلامي المتطرف وتنظيماته في المنطقة، وإلى عقود قادمة.
فعلى العكس تماماً من كل التكهنات السابقة المتعلقة بتحول سوريا إلى بقعة جذب، أو مغناطيس كما وصفها وزير الخارجية الأمريكي كيري، للمتطرفين، أو من يُدعون في الثقافة الإسلامية أهلَ الغُلو والإفراط، يبدو أن سوريا ستكون نقطة الانطلاق الجغرافية والثقافية لاسترداد الوسطية الإسلامية والاعتدال في فهم الدين وتطبيقه. وهو أمرٌ سيؤثر دون شك في طبيعة المنظومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ستنبثق إلى درجة كبيرة من تلك العملية.
يكفي، ببساطة، أن ننظر لكيفية تطور الأمور في الأشهر الماضية على أكثر من مستوى لنرى ملامح التغيير في الظاهرة ولنستقرأ ملامح الواقع الاستراتيجي الجديد الذي نتوقع حصوله.
فمنذ أشهر قليلة، كانت هذه الفصائل عينُها تنظر إلى تنظيم (داعش) على أنه فصيلٌ إسلامي يشترك معها في كثيرٍ من المقدمات والأهداف. وبغض النظر عن تفسير البعض لتلك النظرة، إلا أن من الطبيعي تفسيرها من وجهة نظر الفصائل بعدم رغبتها في (الحكم على النيات)، وبتغليب (إحسان الظن)، وبمحاولة تجنب أي اقتتالٍ داخلي والتركيز بدلاً من ذلك على مواجهة النظام دون غيره.
لكن ممارسات داعش الوحشية مع المواطنين والتي لا تمتُّ إلى تعاليم الإسلام بصلة من جهة، وظهور تفرّغها للسيطرة على المناطق المحررة من جهة ثانية، ثم هجومها على مناطق تواجد الفصائل العسكرية من جهة ثالثة، وأخيراً تهديدها بالانسحاب من مناطق المواجهة مع النظام وتنفيذ هذا التهديد عملياً، ساهمت كلها في كشف أي غطاءٍ عنها. الأمر الذي رفع عن القوى الثورية الحقيقية كل حرجٍ في مواجهتها وبحسم، سيراً على نهج قتال البُغاة والخوارج كما ورد في التصريحات والفتاوى المتعلقة بالموضوع من الهيئات والروابط الشرعية في سوريا.
ثمة نقلةٌ أخرى واضحة تمت خلال الأشهر القليلة الماضية، وهذه المرة في خطاب الفصائل الذي بات يحوي مفردات ومفاهيم لم تكن موجودةً في السابق، وهي في الحقيقة أقربُ بشكلٍ مضطرد إلى روح الإسلام الوسطي الذي يؤمن به أهل الثورة السورية، ومن أجله خرجوا في ثورتهم منذ اللحظة الأولى.
وقد يكفي هنا على سبيل المثال دراسة البيان المشترك الأخير الصادر عن القوى الكبرى وهي (الجبهة الإسلامية والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام وجيش المجاهدين) فيما يتعلق بمؤتمر جنيف. فالفقرة الأولى من البيان تقول ما يلي:
"من الواضح أن الثورة السورية تمر الآن في منعطف خطير فلا بد من التدقيق في تبعات كل خطوة من خطوات العمل ومخرجاتها. وبما أن ثورتنا قد انطلقت للمطالبة بالحرية والكرامة للشعب السوري وليس رغبة في القتال وقد اضطرت لحمل السلاح للدفاع عن المتظاهرين الذين تعرضوا للقمع الوحشي، وهي تؤمن بأن حمل السلاح ليس هدفاً بذاته، بل الهدف استرداد حقوق شعبنا المسلوبة، الدينية والإنسانية".
تبدأ الفقرة بالإشارة إلى ضرورة دراسة كل خطوة "من خطوات العمل ومخرجاتها"، ويأتي هذا انطلاقاً من الشعور بأن الثورة السورية "تمر الآن في منعطف خطير". لا كلامَ هنا بلهجة المطلقات الأيديولوجية الحاسمة التي تتعامل مع الأمور بأحكام مُسبقة نظرية وطهورية، وإنما الحديث عن ضرورة دراسةٍ متأنية لكل خطوة من خطوات "العمل" وليس فقط "الجهاد ومناجزة الأعداء".
ثم تؤكد العبارة الثانية أن "ثورتنا قد انطلقت للمطالبة بالحرية والكرامة للشعب السوري وليس رغبة في القتال". فالحديث هنا بكل وضوحٍ وصراحة، عن "ثورة" وليس عن "غزوة جهادية" مثلاً. وبما أن هناك تماهياً متزايداً مع الشعب الثوري فإن الكلمة تُصبح "ثورتنا". أما طبيعتُها فإنها بكل وضوحٍ وصراحة ليست عملية قتالٍ عبثيٍ من أجل القتال، وإنما انطلقت، أيضاً بوضوحٍ وصراحة، "للمطالبة بالحرية والكرامة للشعب السوري" لا لهدفٍ آخر.
أما حملُ السلاح فلم يكن هو الأصلُ والقاعدة، بدلالة الكلام الجلية والواضحة وإنما "اضطرت لحمل السلاح للدفاع عن المتظاهرين الذين تعرضوا للقمع الوحشي". ولمزيدٍ من التوضيح بشكلٍ لا يقبل تأويلاً أو تفسيراً آخر، يؤكد البيان أن الثورة، ومن أصدر البيان ضمنياً، يؤمنان "بأن حمل السلاح ليس هدفاً بذاته، بل الهدف استرداد حقوق شعبنا المسلوبة، الدينية والإنسانية".
ثم إن البيان ينتقل إلى طلباتٍ يجب تحقيقها "لنجاح الحل السياسي" هي طلبات كل السوريين، بما فيها الطلبات المعلنة للائتلاف الوطني السوري، ليختم بشرطين أخيرين ونداءٍ تلفت صياغتُها ومفرداتُها النظر وتستحق الكثير من التأمل والدراسة. ويأتي الشرطان والنداء على الشكل التالي: "عدم التدخل في شكل الدولة المستقبلية بعد النظام، ولا فرض أي أمر ينافي الهوية الإسلامية لعامة شعبنا، والتي لا تمنع أية فئة من فئات المجتمع من حقوقها. رد الحقوق التي استلبت خلال سنوات الثورة السورية لأهلها . لهذا كله فإننا ندعو كافة جهات المعارضة السورية الشريفة إلى حشد الصف وراء شعبنا الثائر ومطالبه المشروعة وسعيه للحرية والكرامة ونيل حقوقه الدينية والإنسانية".
ثمة دقةٌ كبيرةٌ مقصودةٌ في انتقاء الكلمات في هذا البيان.. فهو ليس صادراً عن مجموعةٍ هامشية من المقاتلين، وإنما عن أكبر مجموعات ثورية عسكرية في سوريا اليوم، لها مكاتبها السياسية، ومرجعياتها العلمية، فضلاً عن تواصلها الوثيق والمتزايد مع علماء الشام الوسطيين الثقاة في أغلب أمورها وقضاياها.
ليس في البيان "دوغما" دينية أو أيديولوجية بأي شكلٍ من الأشكال.
ليس فيه شعارات جوفاء تخلق مفاصلةً مع الشعب السوري، ولا مع تطلعاته ومطالبه وثقافته وهويته، وإنما على العكس تماماً، يدخل البيان بأصحابه في روح الثورة وهويتها ومفرداتها، ويتبنى شعاراتها ومطالبها.
ما من شكٍ أن الكمال لله وحده. لكن مثل هذه التطورات ستكون علامةً فارقة ومؤشراً على إنجازٍ جديد تُنجزه الثورة السورية إضافةً إلى تحقيق أهدافها الأصلية، وربما لم يكن في وارد أحد. فلا تكونَ سوريا القادمة فقط بلد الحرية والكرامة والتنمية والحياة والمواطنة التي "لا تمنع أية فئةٍ من فئات المجتمع من حقوقها"، وتعطي "شعبنا الثائر مطالبه المشروعة... وحقوقه الدينية والإنسانية"، بل تكون سوريا أيضاً الوطن الذي تنكسر على حدوده مسيرة الغلو والتطرف والإرهاب المعاصرة، تماماً كما انكسرت عليها تاريخياً موجات الإرهاب الصليبي والتتاري والمغولي، لتعود للبشرية سيرتُها الطبيعية خدمةً للإنسان وبناءً للدول والحضارات.