الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في الممانعة الاجتماعية للتغيير

في الممانعة الاجتماعية للتغيير

19.05.2015
موسى برهومة



الحياة
الاثنين 18-5-2015
ويسألونك لماذا لا تتطوّر المجتمعات العربية، ولا تلتحق بركب الحضارة والمدنيّة. ولماذا، رغم تبرمها من سوء أوضاعها، لا تهبّ إلى تغيير واقعها، وهي التي يردد أفرادها دائماً الآية الكريمة من سورة الرعد: "لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم".
نظن، وليس كل الظن إثماً، أن هناك ممانعة اجتماعية للتغيير، بذريعة أن الأوضاع الراهنة ربما تكون أفضل من تغييرات المستقبل المجهولة، وهذا يسمى في علم النفس "عقدة ستوكهولم"، حيث تتآلف الضحايا مع الجلاد وتتعاطف معه، وتشرع في تبرير أفعاله، وقد تدافع عنه وعنها، وربما تتحالف معه، كما يحدث في بلادنا.
الناس تخشى التغيير، فتقاومه، لأنها غير مستعدة لدفع أكلافه. لذلك يطمئن الطغاة، وينام الاستبداد ليله الطويل. وربما يحلم بنوارس تحلّق في أقاصي البحار وتبتلعها العاصفة!
والناس تألف الحياة، رغم مشقتها، وتتكيف مع الظروف رغم مأسويتها، وتشغّل ماكينة التبرير، كلما هبت أزمة، أو ادلهمّ خطب. فالانقلاب على السكينة، مع أنها مملة وتذوّب أغصان العمر، لا يفضله الكثيرون ممن يعشقون العيش على مقربة من فوهة البركان.
وثمة من لا يرغب حتى في تغيير منزله القديم، المتآكل، الآيل للانهيار، بذريعة أن الرحيل شأن لا يُحتمل، لأنه يستدعي النوستالجيا إلى المكان، لا سيما إذا كان أولاً، ما يستحضر روح الشاعر الذي أخبرنا بأنّه "كم منزل في الأرض يعشقه الفتى/ وحنينه أبداً لأول منزل".
ولما جاء "الربيع العربي" محمّلاً بوعود التغيير ووروده، ولمّا آل إلى ويلات بفعل ارتفاع وتيرة الاستبداد والقتل التي قدمت نموذجاً دموياً للربيع، صار التعوذ من الثورة شيمة ليس الناس العاديين وحسب، بل والثوريين، واليساريين على وجه الخصوص، الذي رأوا في "الربيع" مفجّراً -وحسب- شقائقَ نعمان موغلةً في الحُمرة والجحيم.
وجرى استثمار خيبة الربيع على نحو جعل الناس في بلدان كثيرة تقرنه بالدمار وتهديم البلدان وقتل البشر. وهو استثمار خبيث، بلا ريب، هدفه إخافة الناس، المذعورة أصلاً من التغيير. فتراجعت نداءات الديموقراطية، واستعيض عنها بالمشاركة الشعبية، أو البناء الديموقراطي، أو التحوّل نحو الديموقراطية، ما يعني إنعاشاً لقوى التسلط والتوريث وغياب المساءلة والشفافية، وتأجيل النظر في القضايا الملحة باعتبار أن "اللحظة التاريخية الحرجة غير ملائمة"!
لكنّ ذلك، لا يصلح أن يكون شمّاعة نعلّق عليها فشل المجتمعات العربية في الوصول إلى المرحلة الديموقراطية التي يجري في غضونها تداول السلطة وفق آلية صناديق الاقتراع. فهذه المجتمعات في أغلبها، لم تتمكن من الثقافة الديموقراطية، وعاشت السواد الأعظم من أعمارها، في ظل أنظمة أبوية أو وراثية أو سلطوية أو كلها معاً. وكانت أجهزة الأمن هي التي تحكم وتتحكم بأنفاس الناس وأقدارهم، ما جعل التقرب إلى السلطة وسيلة للحفاظ على العيش وضمان الحد الأدنى من المستقبل، إن لم يكن للشخص نفسه فلأبنائه، على ما ألفت ترديده الذاتُ الهلعة التي انطفأ شغفها بالتغيير، وتماهت مع ذهنية ذلك الفاسد الباطش القاتل، لأنها باتت تعرفه وتتوقع ردود أفعاله، وتخشى أن يأتي عوضاً عنه عادلٌ رشيدٌ نزيهٌ لم تعتد ميكانيزماتها النفسية عليه.
دعونا، إذاً، نتوقف عن الحديث حول قوى الشد العكسي باعتبارها فئة قليلة. فلربما يكون المجتمع في غالبيته قوى شد عكسي. السجين الذي أمضى سنوات طويلة في العتمة يخشى الشمس، وربما يطالب عند إطلاقه بأن يعود إلى الزنزانة!
* كاتب وأكاديمي أردني