الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في النقد الذاتي: إشكاليات جماعات الثورة وناشطيها

في النقد الذاتي: إشكاليات جماعات الثورة وناشطيها

04.03.2019
نجاتي طيّارة


سوريا تي في
الاحد 3/3/2019
أولا ـ إشكالية الفرقة الناجية:
يستطيع المتابع للثورة، أن يسمي عشرات، إن لم يكن مئات المنظمات التي أنشأها السوريون المنتمون إلى الثورة بهدف تحقيق أهدافها، لكنه لا يستطيع حصر تلك المنظمات والادعاء بمعرفتها جميعا، فذلك ليس راجعا إلى ضرورة توفر جهد وعمل بحثي أوسع وأكثر شمولا فحسب، بل لأن ديناميكيات السوريين غزيرة المبادرة وهي تفوق جهود البحث المعروفة في هذا المجال.
ذلك أن السوريين ينشئون مزيدا من تلك المنظمات كل يوم تقريبا، منذ أعطاهم انفجار الثورة العفوية في ربيعها الأول ذلك الزخم، فخرجوا كالمارد من قمقم مملكة الصمت وتصحرها السياسي الذي فرضه نظام البعث طوال أكثر من نصف قرن. وإذا كان ذلك قد حدث، في ربيع دمشق قبل حوالي عشر سنوات من اندلاع الثورة، بإجماع المراقبين والصحافة العالمية يومها، حيث انتشرت المنتديات كالفطر في جميع أرجاء سوريا، فقد تكرر وتعاظم ذلك الزخم، منذ قيام الثورة السورية أواسط آذار 2011.
تلك المبادرة وغزارتها، تؤكد ما سبق لنا ملاحظته، من ديناميكية السوريين وحيويتهم التي لا يستطيع أي ملاحظ أن ينكرها  من جهة أولى، ومن جهة ثانية فهي تفصح عن طبيعة أساسية في هذه المبادرة، تتمثل في أن قيام تلك المنظمات في مجال الثورة وانتشارها، يكاد يكون عفويا وغزيرا وسريع الظهور وكذلك سريع الذبول والاختفاء، الأمر الذي دعا لمماثلتها بطبيعة الفطر رغم اختلاف المجال والمكونات!.
تكاثر المنظمات السياسية وتوازيها وتعددها في نفس المجال والاتجاه، لا نجد تعليلا له
وفي الواقع، فإن المماثلة لا تفيد هنا أكثر من ملاحظة السرعة والعفوية، في حين أن دراستها كنشاط اجتماعي إرادي وفكري، تتطلب البحث عن أسباب وفرضيات أخرى. فإذا كان مفهوما وطبيعيا، بل ومفيدا نشوء العديد من منظمات الإغاثة والإعلام والنشاط الاجتماعي وتكاثرها في مختلف الأرجاء، سواء في داخل سوريا أو في خارجها بعد تطور أحداث الثورة، نظرا لضرورتها وفائدتها الميدانية (ومنها على سبيل المثال: اتحاد تنسيقيات الثورة السورية حول العالم الذي عقد مؤتمره التأسيسي قرب وارسو خريف عام 2017، واتحاد السوريين في أوروبا الذي أعلن عن تأسيسه في باريس يوم 11 شباط 2019 وسيعقد مؤتمره الأول قريبا، وكان قد سبقهما قيام اتحاد السوريين في المهجر، الذي عقد  مؤتمره التأسيسي في فيينا يوم 9 أيلول2011 )، فإن تكاثر المنظمات السياسية وتوازيها وتعددها في نفس المجال والاتجاه، لا نجد تعليلا له، إلا باقتراح فهمه من خلال فرضية دور الفرقة الناجية. ذلك أن معظم تلك المنظمات اعتبرت نفسها أشبه ما تكون بمنزلة الفرقة الناجية، التي لاعلاقة لها بأخطاء من سبقها وسقطاتهم، وبطبيعة الحال فهي لا علاقة لها بانجازاتهم أو نجاحاتهم التي لاتعترف بها أصلا، وإلا كان عليها أن تكملها أو تسير على منوالها، وبالتالي ستضطر إلى التعاون معها على الأقل، إن لم يكن عليها أن تلتحق بصفوفها!
وفيما عدا بعض الحالات النادرة، والتي كان أبرزها اندماج المجلس الوطني السوري بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في طور تأسيسه، تحت ضغوط عديدة كان أبرزها دوليا وإقليميا. فإن معظم المنظمات الثورية السورية الأخرى عملت وما زالت تعمل، بعقلية الفرقة الناجية، التي سلف ذكرها، وقد بدأ كل منها خطواته الأولى بإلغاء الفرقة الأخرى المشابهة له وتجاوزها، سواء بتخطئتها أو تجريمها، أو التنديد والتشكيك بشخوصها.
وهذا ما كان يحدث في الأعم الأغلب، وعكس تاريخا طويلا من التشكيك وفقدان الثقة والحذر بين السوريين، ظهر وتطور في المناخ الأمني الذي فرضه نظام البعث طويلا، والذي تعددت فيه أجهزة المخابرات الشمولية، التي اشتغلت بضبطهم، بين جوية وعسكرية وسياسية وعامة ومتخصصة، لدرجة أنه كان بينها فرع خاص حمل اسم فرع فلسطين، لكنه اتسع مع ذلك لضبط جميع السوريين أيضا، فضلا عن انتشار ثقافة مرجعية خاصة بالإشارات المحيلة لانقسامات المجتمع الأهلي السوري (بين طائفية ومناطقية وعشائرية إلخ)، والتي صارت أشبه بالهويات المميزة لجماعات ما دون المواطنة!.
عقلية الفرقة الناجية، لم تؤد إلى تفتيت جهود منظمات الثورة السورية فحسب، بل أدت إلى إلغاء التراكم وعدم تقدم الخبرة أيضا. فالكل طالع على الأول، وطالب للصدارة. فهذا يطمح لمنصب الرئيس أو يصارع عليه في أية منظمة، ولو كان في أصغر هيئة، والآخر لايقبل أقل من منصب الأمين العام، أو مرتبة ما حولها، مكررين في ذلك، بوعي أوبدون وعي، تربيتهم وعاداتهم القديمة والمتأصلة في ظل نظام البعث!
ولم يحدث ذلك في منظمات المعارضة الداخلية فقط، بل حتى في منظماتها الخارجية، ومنظمات المجتمع المدني التي ولدت على هامشها، والتي قلّد بعضها أنماط منظمات النظام وحزبه وجبهته التقدمية الوطنية في بلدان اللجوء أيضا. بدءا من غلبة المقدمات السياسية المطولة، على طريقة البدء بسمة العصر وتناقضاته الأساسية، إلى استبدال دورالحزب القائد وطليعته بدور أهل العلم والرأي أو المرجعيات، في وثائقها وأنظمتها الداخلية، وصولا إلى البنية التنظيمية المتكاملة، التي بشموليتها لا تترك مجالا من مجالات الحياة والمجتمع، إلا وتسمي له مكتبا ورئيسا وأمينا للسر ومقررا، بما في ذلك مكتب المرأة، على الرغم من كل تهميش واقعي ما زالت الأخيرة تعيشه حتى ضمن معظم العائلات السورية المغتربة، وفي الوقت الذي فطنت فيه عصابة النظام إلى التخلص من منظمة الاتحاد النسائي الشهيرة! في حين أنه يفترض بهذه المنظمات، التفرغ لإعداد البرامج وجدولة المشاريع الخاضعة لجداول زمنية ومعايير إنتاجية، أسوة بمثيلاتها منظمات المجتمع المدني الأوروبية!.
 2ـ  إشكالية المشايخ والقبضايات
في ظل العسف الأمني الطويل لنظام البعث، ضمرت فعاليات المجتمع المدني وانحصرت فعاليات المجتمع الأهلي في المجال الخيري (دور اليتامى ورعاية المسنين، والأطفال الجانحين والمساجين ورعاية الأسرة، وأمثالها) وغالبا ما خضعت للفساد الاقتصادي والأمني كغيرها من فعاليات المجتمع السوري، فبرزت في إطارها نماذج الناشطين الطفيليين من المشايخ والقبضايات والوجهاء من رجال الأعمال وأمثالهم. وطغى ذلك المشهد مع انطلاقة الثورة على صور الناشطين المستقلين الذين تم استبعادهم بدرجات وأشكال مختلفة، تدرجت حتى الاعتقال والنفي القسري. بينما عمل النظام بصورة منهجية ومنظمة على تعزيز أدوار الطفيليين، وفق سياسته الدائمة، والقائمة على سلاحي الترهيب والترغيب، فسجن البعض بينما استدعى آخرين للحوار مع القصر والسلطات المحلية. لكن تطور الأحداث وانتقال النظام إلى إعلان الحرب الشاملة ضد بعض المدن والأرياف ، أدى إلى حدوث فرز حاد في صفوف أولئك الناشطين الطفيليين، دفع بعضهم إلى الانحياز إلى جانب أهاليهم المظلومين في الأحياء والقرى التي تعرضت لنيران النظام وبراميله المتفجرة، حيث شكلوا جزءا من ظاهرة الانشقاق المعروفة، فصار بعضهم موجها دينيا ومفتيا مبادرا لدعم محيطه الأهلي، وتطور آخرون كي يصبحوا قوادا عسكريين لفصائل وكتائب وجماعات مقاتلة ومتنوعة.
وتحت وطأة اشتداد الصراع وتزايد حاجاته، تطور بعض من خرج منهم وبعض من بقي في الداخل فصاروا سلطة جديدة، لجأت للاستبداد بجماعتها ومحيطها، واستندت إلى إسلام وظيفي محدود ويستجيب لحاجاتها، لدرجة أن صار بعضهم أمراء حرب لاعلاقة لهم بأي من أهداف الثورة الأولى. وذلك حين استخدموا أساليب مشوبة بكثير من فقدان المعايير الأخلاقية والدينية، فضلا عن الوطنية!.
صارت قضيتهم هي الاستبداد بمناطقهم، على شاكلة استبداد النظام بمناطقه
ولم تمنع صورة المرجعية الدينية تلك من نشوب الصراع بين قادة تلك الجماعات، كما لم يمنعهم من ذلك عداؤهم للنظام، وقد خالفوا أبسط شروط الوحدة في المعركة ضد العدو المشترك، فقدّموا مناطقهم وسكانها ضحيةً سائغةً له، بعد أن استخدموا كل صنوف أسلحتهم المتوفرة ضد بعضهم بعضاً، فذهب ضحية صراعهم الآلاف من الضحايا، وطوال ذلك الصراع، لم يسأل قادة هذه الجماعات عن المستفيد منه، ولم يتوقفوا عن زج مزيد من الشبان والمقاتلين ضد بعضهم. وعلى الرغم من أن بعض قادتهم من المشايخ الذين يفترض بهم المزيد من النضج والحكمة، فإن ذلك لم يمنعهم من التعصب لرأيهم، والانغلاق على نمط تفسيراتهم، والإصرار على انفرادهم بتسيير أمور مناطقهم. فصارت قضيتهم هي الاستبداد بمناطقهم، على شاكلة استبداد النظام بمناطقه، لا فرق بينهم وبينه في الوقائع والنتيجة!.
وذلك الاستبداد ارتبط لا بهيبة التسميات الخاصة بكل من تلك الجماعات فحسب، والتي تضفي على كل منها ارتباطاً بالمقدسات، بل هو مرتبط أيضاً، بالهالة الدينية والاجتماعية لقادتها من المشايخ، فتلك الهالة تحظى بهيبةٍ تكاد تماثل هيبة المقدّس دينياً، وهو أمر يتعالى على كل بحثٍ أو محاولة دراسة للوقائع، قد تكون مختلفةً ومتجدّدة، ولا خبرة سابقة بشأنها. الأمر الذي يفترض اللجوء إلى السياسة المدنية، بوصفها إدارة للشأن العام، لا إلى المرجعيات بهيبتها الدينية أو طيفها المهيمن اجتماعياً، أي إلى إدارةٍ لا يكون الرأي والقيادة فيها للشيخ بصفته داعية دين، بل بصفته مواطناً مشاركاً مع غيره من المواطنين في الرأي والتدبير. عندها، ستواجه تلك الجماعات حقيقة أن الديمقراطية، بما تتيحه من تشاور وتداول على الأقل، وعلى الرغم من كل موقف تقليدي مسبق منها، هي الوسيلة الأنجع لإدارة شؤون جماعاتها ومناطقها، وذلك فوق كونها هدفاً للتغيير الوطني الذي خرج شباب الثورة السورية السلمية من أجله.
ولا تتعلق الدروس التي يفترض استخلاصها اليوم بمشاركة الإسلاميين في الثورة السورية، تيارات ومنظمات وأفكاراً، وهي مشاركة ضرورية ومطروحة على قدم المساواة مع غيرهم من مختلف التيارات السورية، لكنها تتعلق بطبيعة القصور الذي أدّى إليه توظيفهم المرجعيات واستلهاماتها، وهي استلهامات كان قد تصاعد تأثيرها في ظل تعاظم بؤس السوريين وفئاتهم المهمشة، ولجوئهم العفوي إلى تلك المرجعيات، هرباً من عنف النظام وعصبويته التشبيحية. لكنها، أي الاستلهامات، إذا كانت قد لبت حاجات اللجوء والتضامن في مرحلةٍ ما، فلم تكن لتحل مشكلات الواقع والحرب المعقدة مع النظام، ولم تتمكّن من توحيد مواقف الجماعات المتجاورة في البيئة وتحت اللافتة نفسها، وهو توحيد تتطلبه أولويات المعركة أيضاً. لكنها كانت تغطي دوماً تلبية المصالح الذاتية، والارتباطات الضيقة لقادة الجماعات، فضلاً عن نزعات الممولين والداعمين. والأمثلة لا تعد ولا تحصى على صِغر الخلافات والنزاعات التي كادت أن تكون شخصيةً بين أولئك القادة، لكنها صارت بلا قيمة اليوم مقابل الخسارة العسكرية والهزيمة التي تسببت بها أمام قوات النظام  وحلفائه