الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في تصحيح مسار الثورة السورية: احترام التخصص

في تصحيح مسار الثورة السورية: احترام التخصص

14.10.2013
د. وائل مرزا


المدينة
الاحد 13/10/2013
في تصحيح مسار الثورة السورية: احترام التخصصلا يختلف اثنان على درجة تعقيد العناصر المؤثرة في الثورة السورية. والاتفاق كبير على كثرة الحاجات المطلوبة ليس فقط لخدمة الثورة ونصرها، وإنما أيضاً لإقامة سوريا الجديدة التي تمثل الهدف النهائي لذلك الانتصار.
من هنا، يظل مطلوباً على الدوام البحثُ عن المداخل والأساليب لفهم ذلك التعقيد والتعامل معه والاستجابة لتلك الحاجات وتلبيتها.
وما من سبيل للإجابة على الأسئلة المطروحة إلا باستخدام مفردتين من لغة هذا العصر وأداتين من أدواته: التخصص والمؤسسات.
ولا تبدو الحاجة لاحترام التخصص كما تبدو في حالة الثورة السورية اليوم. فمن علم الاجتماع إلى علوم الإدارة والتنظيم، ومن علم السياسة إلى العلوم العسكرية، يظهر واضحاً افتقاد الغالبية العظمى من العاملين في هذه الحقول إلى الخبرة المطلوبة للعمل فيها بفعالية. بل إن كثيراً ممن يتصدون للعمل يُسيئون بنشاطاتهم وقراراتهم إلى الثورة أكثر بكثير مما يقدمونه من فائدة.
ما هي التحولات الاجتماعية التي نتجت عن الثورة السورية وملابساتها؟ كيف يمكن تشكيل هوية وطنية جامعة تلمﱡ ما تفرق من شمل شرائح المجتمع السوري؟ وهل هذا التشكيل ممكنٌ أصلاً؟ وما هي بدائله إن لم يكن ممكناً؟ لماذا فشلت تقريباً كل المنظمات والهيئات والمؤسسات التي يُفترض أنها وُجدت لخدمة الثورة وأهلها؟ لماذا تكثر هذه التشكيلات في المجال السياسي والعسكري والإغاثي والخدمي وتكثرُ معها المشكلات؟ أين المؤسسات التي تدﱠعي العمل لتمثيل الشعب السوري سياسياً من الفكر السياسي المحترف والممارسة السياسية المحترفة؟ ماذا يفعل وكيف يُخطط أكثر من 150 ألف مقاتل يُقال لنا بأنهم يحملون السلاح ضد النظام؟!
هذه وغيرها أسئلةٌ كثيرة لا توجد لها اليوم إجاباتٌ حقيقية. ولو وُجدت مثل تلك الإجابات لكان وضع الثورة مختلفاً إلى حدٍ كبير.
نفهم كل ما يُقال عن وحشية النظام، وعَون أصدقائه الكثيف له، وخُذلان السوريين من قبل (أصدقائهم) مالياً وسياسياً وعسكرياً، لكن من المُعيب حصر تفسيرنا لواقع الثورة السورية اليوم بتلك المقولة. خاصةً وأننا لا ننحو في هذا المقال إلى التخوين والطعن في نيات أحد، وإنما حسبُنا الإشارة إلى عنصرٍ نعتقد أنه السبب الأكبر في الوضع الراهن يتمثل في غياب احترام التخصص.
فالثورة السورية اليوم ظاهرةٌ مشاع. وكل إنسان يُقحم نفسه في شأنٍ من شؤونها بغض النظر عن درجة معرفته وخبرته واختصاصه في ذلك الشأن.
هنا تبرز الجوانب المأزومة من الثقافة الشائعة، من عقلية (أبو فهمي) الذي يفهم في كل شيء ويعتمد على شطارته وفهلوته وخبرته في الحياة معتقداً أنها تؤهله للعمل في السياسة والحرب والتنظيم والإدارة، مروراً بآفات حب الظهور والتصدر والتشاوف بأي طريقة ممكنة، وصولاً إلى التسامح السلبي المتبادَل بين أبناء المجتمع لتمرير مثل هذه الظواهر وعدم الحسم في إلغائها ومنعها لأسباب متنوعة منها الإهمال، ومنها المحسوبية العائلية أو المناطقية أو الأيديولوجية، ومنها الفساد والرغبة في تبادل المصالح والانتفاع من الثورة.
لقد تنوعت معارف الإنسان في هذا العصر واتسعت آفاقها وأصبح ازديادها من ناحية الكم وعمقها من جهة الكيف هائلاً وسريعاً إلى درجة تكاد تكون عسيرة على التصور والإدراك.
وفي حين كانت العوامل التي تؤثر في حياة الأمم والشعوب في الماضي معدودةً ومحصورةً في بيئتها الجغرافية وواقعها الخاص. تزايدت تلك العوامل بصورة متوازية مع تقدم العلوم الإنسانية في كل مجال حتى أصبحت اليوم مجموعةً هائلة لا حصر لها في العلوم والفنون والآداب والصناعات.
وفي حين كان العلماء فيما مضى يتصفون بصفة الموسوعة، فنجد أحدهم عالماً في اللغة والاجتماع والفلك والطب والكيمياء وما إليها.. صارت غايةُ المنى لكثير من علماء اليوم أن تكفي حياتهم للإحاطة الشاملة الدقيقة ليس بعلمٍ واحد من العلوم، بل بموضوعٍ مُحدد من ذلك العلم.
ومن أهم ملامح هذا العصر أن كثيراً من تلك العمليات العفوية التي كانت تمارسها المجتمعات أو يقوم بها الأفراد في الماضي صارت اليوم علوماً تُدرس في المدارس والجامعات وتُكتب فيها المقالات والكتب والأبحاث وتُقام لها حلقات البحث والندوات والمؤتمرات.
لم يعد شيءٌ يتعلق بالإنسان عفوياً في هذا الزمان. وإذا ظن أحدٌ ذلك فإنما ينتج شعوره عن جهلٍ بهذا العصر وبهذا العالم.
وإذا كان هذا ينطبق على حياة المجتمعات في الظروف الطبيعية، فإنه أولى بالاهتمام في ظل الأوضاع الاستثنائية، كتلك التي تمر بسوريا اليوم.
لن يستطيع سوريٌ أن يخدم قضيته اليوم ما لم يدرك تلك الحقيقة الكبرى أولاً، ثم يعمل على ممارستها على أرض الواقع. والاعترافُ بها والعمل من خلالها يمثل الحد الأدنى من الجدية والاحترام لتضحيات الشعب السوري الكبيرة، وهذا وحده الذي سيُمكن السوريين من توظيف طاقاتهم الهائلة ومخزونهم الحضاري لتحقيق أهداف الثورة.
إن التعامل مع العالم والعصر من خلال رفع الشعارات والحديث عن المبادئ واستخدام العواطف والنيات الحسنة أمر في غاية السهولة. إلا أن عملية إثبات الوجود في وسط هذا العالم الذي تموج فيه الزوابعُ والعواصفُ والأعاصيرُ بالأمم والدول يتطلب فهماً آخر ووعياً آخر وجهداً آخر مختلفاً تماماً عن تلك الطريقة.
وإذا كان لأحدٍ أن يفكر في تصحيح مسيرة الثورة فإن عليه أن يبدأ من احترام الاختصاص في كل مجالٍ من مجالاتها، بحيث يُبنى على هذا الاحترام موقفٌ عملي يؤكد على وضع الإنسان المناسب في الموقع المناسب، لتظهر المُخرجات المناسبة للثورة في نهاية المطاف.