الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في دوافع الموقف الروسي من الأزمة السورية

في دوافع الموقف الروسي من الأزمة السورية

24.05.2014
د. مروان قبلان



الشرق القطرية
الخميس 22/5/2014
لم تشهد ثورة من ثورات الربيع العربيّ حالةً من الاصطفاف الإقليمي كما شهدتها الحالة السوريّة. ويعود السبب في ذلك إلى أنّ سورية تشكّل بيضة القبان في توازناتٍ إقليميّة دقيقة، فأيّ طرفٍ يستميلها يكون قد غيّر ميزان القوى الإقليمي لمصلحته بشدّة.. أما دولياً فإن الأمر يبدو مختلفاً بعض الشيء، إذ لا تشكّل سورية حالة مهمّة بذاتها بالنسبة إلى القوى الكبرى في النظام الدولي، وتحديدًا روسيا والولايات المتّحدة، إلا بمقدار ما يتم تجييرها كأداة للضغط على الطرف الآخر للحصول على مكاسب في قضايا أكثر جوهرية.
إن غياب هذه الرؤية يدفع إلى التبسيط أحياناً في تفسير الموقف الروسيّ من الأزمة السوريّة بوجود عقود سلاح بين الطرفين أو اهتمام الروس بالقاعدة البحريّة في طرطوس، فهذه الأسباب أضعف من أن تفسر السياسة الروسية المتشدّدة في دعم النظام السوري، فعقود السلاح الروسيّة مع سورية تكاد قيمتها لا تذكر، أمّا قاعدة طرطوس فهي صغيرة جدًّا ولا تستطيع استيعاب السفن الروسيّة الكبيرة، فضلاً عن ذلك، فقد استأثرت طرطوس باهتمام روسيا فقط عندما هددت أوكرانيا عام 2008 بعدم تجديد العقد الذي يسمح لأسطول البحر الأسود الروسيّ باستخدام القاعدة البحريّة في سيفاستبول، والذي كان مقرّرًا أن تنتهي مدّته عام 2017، أما الآن وبعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم وأصبحت سيفا ستبول جزءاً من الأراضي الروسية، لم يعد هناك ما يبرر اعتبار طرطوس ذات قيمة بالنسبة إلى موسكو.
في العموم، تعتقد روسيا أنّ إدارة الرئيس أوباما قامت بخداعها عندما أعربت عن رغبتها في انطلاقةٍ جديدة في العلاقات بين البلدين، وهو الانطباع الذي تركه لقاء وزيرة الخارجية الأمريكيّة هيلاري كلينتون مع نظيرها الروسيّ سيرجي لافروف في موسكو عام 2009 عندما أمسك الطرفان "بزرّ كهربائي"، وضغطا عليه سويّة للإعراب عن رغبتهما المتبادلة في تجاوز التوتّر الذي ساد في حقبة الرئيس بوش الابن.. وقد حصلت واشنطن إثر ذلك على موافقة روسيّة لتوفير ممرٍّ لإيصال الإمدادات إلى القوّات الأطلسيّة في أفغانستان بدلًا من خطوط الإمداد الباكستانيّة التي أصبحت أقلّ أمنًا نتيجة الهجمات المتكرّرة عليها، من جهة أخرى، ساندت روسيا قرارًا في مجلس الأمن يقضي بفرض عقوباتٍ إضافيّة على طهران بخصوص برنامجها النووي وذلك في صيف عام 2010، كانت موسكو تأمل من وراء هذا التعاون الحصول على تنازلاتٍ أمريكيّة مرتبطة بنشر الدرع الصاروخيّة على تخوم روسيا في وسط أوروبا وشرقها، بدلًا من ذلك، استمرّت الولايات المتّحدة في إقامة هذه الدرع التي تعتقد روسيا أنّ هدفها الأساسيّ هو شلّ قدرات الردع الإستراتيجية التي تملكها، بل قامت واشنطن بنشر رادار متقدّم مرتبط بالدرع في تركيا في عام 2011.
وعلى الرغم من أنّ واشنطن كانت قد تخلّت منذ وقت طويل عن خططها الرامية لضمّ جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الأطلسي، فإن روسيا تعتقد أنّ إدماج جميع دول أوروبا الشرقيّة ودول البلطيق الثلاث - التي كانت يومًا جزءًا من الاتحاد السوفييتي - أمنيًّا في الناتو واقتصاديًّا في الاتّحاد الأوروبيّ هي استمرار لجهدٍ أمريكيّ متواصل لمحاصرة موسكو.
ومع أنّ الرئيس بوتين تمكّن خلال ولايته الثانية (2004-2008) من استغلال انشغال واشنطن بالشرق الأوسط لاستعادة نفوذ روسيا في بعض مناطق القوقاز وآسيا الوسطى، فهو يطمح خلال ولايته الرئاسية الحالية التي بدأت في مايو 2012 إلى تحقيق مزيد من المكاسب عبر إنشاء الاتّحاد الأوراسي، وذلك قبل أن تتعافى واشنطن من آثار حربَي العراق وأفغانستان وتعود للتركيز على أوراسيا، وهو الأمر المتوقّع حصوله العام القادم.
وعندما بدأت الأزمة السوريّة كانت موسكو منشغلة بقضايا داخليّة وخارجيّة ليس من ضمنها سورية. داخليًّا، كانت الاستعدادات تجري على قدمٍ وساق لإعادة بوتين إلى الكرملين.
وقد أدّى الدعم الأمريكيّ المادّي والمعنوي للمعارضة الروسيّة التي تعاظم نفوذها مع اتّهاماتٍ لبوتين بالإشراف على تزوير الانتخابات البرلمانيّة في نوفمبر 2011 ثمّ انتقلت لتستهدف عودته إلى الرئاسة، إلى اعتقاد روسيّ أنّ واشنطن تسعى لنقل رياح التغيير العربيّ إلى موسكو.
من جهةٍ ثانية، أثار الاستغلال الأمريكيّ لقرارات مجلس الأمن بخصوص ليبيا (1970 و1973) وتحوير هدفها من حماية المدنيّين إلى إطاحة القذّافي استياءً شديدًا في موسكو التي شعرت بالغبن، بعد أن خسرت عقود تسليح بمليارات الدولارات مع نظام القذّافي.
ارتياب موسكو من دعم أمريكا تيّارات الإسلام السياسي في العالم العربيّ وعدم ممانعة وصولها إلى السلطة، وضعها أيضًا في موقع الخائف من تصاعد هذا المدّ في أقاليمها الإسلاميّة، وهي التي لم تنس بعد تجاربها في أفغانستان والشّيشان. فضلًا عن ذلك، تتوجّس روسيا من تنامي النفوذ التركيّ في العالم العربيّ بفعل النجاح الاقتصاديّ والسياسي الذي حقّقه النموذج الإسلاميّ لحزب العدالة والتنمية، وباعتبار أنّ تركيا هي وريث الدولة العثمانيّة، وخصم روسيا التاريخي مع ملاحظة ما لها من نفوذٍ وامتدادات في جمهوريات آسيا الوسطى الإسلاميّة، لا بدّ أنّ ذلك أثّر في الحسابات الروسيّة.
وقد ساهم النظام السوريّ في تغذية مخاوف روسيا من تعاظم النفوذ التركيّ من جهة وارتباطه بتيّاراتٍ دينيّة من جهةٍ أخرى، عبر تصوير الاحتجاجات على أنّها حركة إسلاميّة سنّية تسعى إلى إطاحته وإحلال نظامٍ قريب من أنقرة في دمشق.
لذلك قرّرت موسكو أن تلعب لعبة الإسلام الشيعيّ الذي تقوده إيران في مواجهة الإسلام السنّي الذي تمثّله تركيا، انطلاقًا من أنّ سقوط الأوّل الذي تمثّل سورية أهمّ أركانه يعني تحوّلًا إستراتيجيًّا لغير مصلحتها في منطقة الشرق الأوسط.
في السياق نفسه، تعتقد موسكو أن سقوط النظام السوري في دائرة النفوذ التركي يعني فتح خطوط الطاقة (الغاز تحديداً) من الخليج إلى أوروبا عبر سورية وتركيا، ما يعني انعتاق تركيا وأوروبا من الابتزاز الطاقوي الروسي، وهو ما يعني تحولاً إستراتيجيا لغير مصلحة روسيا التي لم يبق لها من مظاهر النفوذ والتأثير في العالم إلا حق الفيتو في مجلس الأمن واحتياطاتها الكبيرة من النفط والغاز.
لهذه الأسباب ذات الطابع الجيوستراتيجي أمّنت موسكو شبكة حماية دولية للنظام السوريّ، لأن سقوطه يعني إضعافًا لها ولإيران التي غدت تشكّل جزءًا أساسيًّا من إستراتيجية الكرملين لمواجهة الدور التركيّ الصاعد وسياسات واشنطن الرامية إلى محاصرته.
وفي انتظار نضج الموقف الأمريكيّ لإبرام صفقة إستراتيجية مع موسكو في عموم الصراع الدائر في الشرق الأوسط وأوراسيا، فإنّ روسيا ستبقى على الأرجح متمسّكة بموقفها.