الرئيسة \  تقارير  \  في ذكراها الـ12 .. الثورات لا تموت

في ذكراها الـ12 .. الثورات لا تموت

09.01.2023
المختار غميض

في ذكراها الـ12 .. الثورات لا تموت
كتب بواسطة: المختار غميض
ترجمة وتحرير: نون بوست
الاحد 8/1/2023
أصبحت الأشهر الأولى للسنة الميلادية موعدًا سنويًا لذكرى انطلاق الثورات العربية في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا، ثم التحق بهم من التحق في بقية العالم العربي وحتى من خارجه، لما أصبحت تمثله من رمزية في وجه الاستبداد
غير أن سفن الانقلابين العرب استوت على بحار من الظلمات في سبيل استعادة مصالحهم وضرب قيم الثورة، لكن لظاها لم يكل أو يمل في الاعتمال بالنفوس، كالجمر تحت الرماد، يخبو ويلتهب كلما حُركت أو هبت الرياح المناسبة.
كل العوامل الحاليّة تصب في صالح بقاء النفس الثوري حيًا وإن عادت الأنظمة المستبدة إلى الواجهة، فهي ضعيفة غير ممسكة بكل عناصر المشهد، ومكبلة في الخارج، سياسيًا واقتصاديًا.
حية تحت الرماد
بدأت الانتفاضات العربية، قوية ثم توسعت، ثم ارتدت، ثم أُخمدت، وها هي في مرحلة يُراد لها أن تُوأد، لكن لن يكون الوضع الحاليّ لدول الانتفاضات إلا مرحلة للصراع والضجيج الداخلي الذي لا يهدأ، شبيه بالتدافع بين مَرَج البحرين المُلتقيان لضرورات مرحلية ظرفية، كالساعة المعدلة على لحظة اليقظة.
فجذور الأزمات عميقة، لم ولن تُحل على المدى القريب الذي يسمح بنسيان نضالات لن تسقط بالتقادم، والعشرية الثورية خلقت أجواءً جديدةً من الحريات هي من التحصيل الحاصل اعتادها الجيل الجديد، الذي لا يقبل بالإذلال والدونية، وتطور لديه حس الانتقاد والحرص على المساواة والعدالة بين الناس في الإدارة وبقية شؤونهم اليومية، بعيدًا عن المجالات السياسية التي ستكون مطلبًا متجددًا.
قد تمرض وتضعف ويتراجع وهج الثورات وتعتل لكنها لا تموت، فلسان حال كل الثائرين، ما ردده الشاعر العراقي مهذل مهدي الصقور: "عبثًا تحاول لا فناء لثائر، أنا كالقيامة ذات يوم آت"، وعندها يكون الخلاص النهائي الذي لا رجوع بعده للاستبداد والطغيان.
تتميز الفترة الحاليّة بتقارب مغشوش بين محورين وقفا على طرفي نقيض من معارك التحرر الشعبي، تقارب أملته الظروف السياسية نتيجة قمع الثورات والاستعداد للذهاب بعيدًا في إبادتها في مهدها وفي رمزيتها.
لكن يبقى ذلك التقارب وإن أحيا أنظمة الدول العميقة، من قبيل ما يتم الحديث عنه بين تركيا والنظام السوري، تقاربًا سياسيًا بحتًا وتعبيرًا عن مصالح لا ترتقي إلى درجة التحالفات.
ويهم التقارب بدرجة أولى أطراف المعارضة السياسية، ولا يمكن أن يشمل الإرادة الشعبية المصممة على الاستمرار، وهذا حال سوريا أكثر الثورات تضررًا، فما بالك بالدول الأحسن حالًا والقادرة على المطالبة بكرامتها بشكل أفضل.
فعندما قررت الإمارات العودة لتركيا بعد اتهامات كبيرة وصلت حد اتهامها بتدبير انقلاب فاشل، أو ترتيبات التطبيع بين أنقرة ودمشق بعد عداء كبير، فإن ذلك سيبعد دول الثورات ظرفيًا، عن التجاذبات الإقليمية المدمرة، ويتيح الفرصة للثوار لالتقاط أنفاسهم، وسيحول معركة التحرر إلى معركة داخلية مستقلة ضد الاستبداد، يسمح للسوادنيين باستعادة مسارهم، والليبيين باستبعاد الحكم العسكري وتنظيم انتخابات حرة، وللتونسيين بفرض العودة للدستور التشاركي للثورة.
المنقلبون هم الأخسرون
ربما من حسن حظ الثورات أن العامل الاقتصادي هو المعطل الأول لقطار الثورة المضادة، فلن تسمح الظروف الاقتصادية المتردية نتيجة حالة الفوضى المرتبطة بقمع المسار الانتقالي في سوريا واليمن وليبيا وتونس، بتوفير الرخاء والقوة للأنظمة العميقة، ولا توفير الاستقرار الاجتماعي نتيجة الخلل الديمغرافي في عائلات بأكملها شردت من سوريا، وهجرة آلاف الشبان من تونس، وهي ملفات مأسوية لا تزال مفتوحة على الغضب والاحتقان.
لقد خسرت تلك الأنظمة المُموِلة للانقلابات ملايين الدولارات لو أنفقتها لصالح الحراك الشعبي لغيرت الواقع، وضمنت احتواء المد الشعبي لصالحها.
بالتالي، فإن وقف التمويل حاليًّا دليل عجز، كما خسرت الولاء الشعبي الثوري داخليًا وخارجيًا، وخسرت المعارك في دول الثروات، بل أصبحت ما تخشى منه واقعًا، فباتت حدودها مرمى للتهديدات من الانقلاب الحوثي، وهو ما يحد أيضًا من شعبيتها في بلدها.
كما خسرت بالمنظور الإنساني والحقوقي والقيمي، الذي يرضى بدعم انقلاب في مصر مثلًا، وبمعارضته في بلد آخر، اليمن، في تناقض صارخ
كما لن تقدر الدول الداعمة للثورة المضادة مثل الإمارات، من إحياء وبث الروح في دواليب الاقتصاد في سوريا واليمن مثلًا، بدليل عجزها في التجربة المصرية السابقة بسنوات لبقية التجارب الانقلابية، حيث تبدو مصر على حافة الإفلاس وفق خبراء الاقتصاد، بعد تعويم الجنيه وما أصابه من انهيارات متتالية مصحوبًا بارتفاع نسب التضخم، وتراجع التصنيف الائتماني إلى مستويات جد متدنية.
هذا دون إغفال العامل الدولي المهم، في ظل تداعيات أزمة القمح والغذاء بشكل عام نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا، وما عقبها من حرب الغاز والمحروقات، ومخلفات الأزمة الوبائية العالمية للفيروس القاتل.
كل تلك الأزمات التي عبثت باقتصادات عظمى، لا شك ستكون فاتكة ومدمرة لاقتصادات مدمرة بطبيعتها، وهو ما سيكون عنصرًا مساعدًا للحفاظ على استمرارية ضعف الانقلابات إلى حين يقظة الشعوب من جديد.  
المستبد في رعب مستمر
أوقفوهم أمام طاولة الحوار فهو المحك، لا يعترف المنقلبون بالحوار ولا بالهزيمة، ولا بالتراجع، ثلاثة الأثافي التي يقف عليها كل منقلب.
عبر التاريخ، تبدأ الانقلابات بالإجهاز على المقربين منها، فلا ثقة لها فيهم، فإذا كان عدوها من المعارضة واضح وصريح في عدائه، فإنها تخشى من المقربين أكثر وأكثر، بحكم غياب عامل الثقة، فهي قائمة على انقلاب غير شرعي، لذا تسعى إلى تغيير مناصبهم دائمًا وتجريدهم من كل الصلاحيات وإعطاء أكبر المسؤوليات للأبناء والعائلة المصغرة.
كما تخشى النظم الانقلابية من الانقلاب عليها أيضًا، فتعيش دائمًا في خوف مستمر ووضع لا يستقر، من فوبيا أو رهاب رد الفعل، لأن الانقلاب فيها أصيل وكما تدين تدان، فتعيش على التضييق وخنق الحريات، وتكبر دائرة عدائها يومًا بعد يوم، حتى تتكشف حقيقتها وينسلخ عنها المناصرون.
عندها يصبح المستبد في عزلة تامة عن الواقع، نتيجة تزيين الأمور من الحلقة المضيقة، وعن الشعب الذي يعلم أنه غير مسنود منه، بل نصب نفسه عليهم غصبًا.
نفس العامل، سيساعد على ضعف المستبدين خارجيًا ويُحرجهم أمام شعوبهم، لأن ناصيتهم عند صناع القرار بالخارج، ونقاط ضعفهم عند قادة دول مثل أمريكا وروسيا.
هذا فضلًا عن ابتزاز تلك الدول للأنظمة التي يدعمونها، وهم الذين يبرمون معهم صفقات سلاح، تورطوا أحيانًا في استعمالها ضد شعوبهم، على غرار عملية "سيرلي" التي أدت إلى مقتل مصريين وليبيين وسودانيين في تعاون مصري ليبي بدعم فرنسي في تعدٍ على سيادة دول عربية، ما جعل تلك الأنظمة مطاردة من القضاء الفرنسي.
لا رجوع للوراء
لا شك أن عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء، وأن الديمقراطية أرقى أنواع الحكم التي توصلت إليها البشرية، كما لا شك أن فضح الأنظمة العربية المتصلبة في العشرية الأخيرة هو رصيد تاريخي يضاف إلى مجازر وظلمات ماضية، مثل مجزرة حماة السورية في الثمانينيات ومعتقلات صباط الظلام التونسية ومجزرة بوسليم الليبية في نفس الفترات المتقاربة، ستكون محركًا للنضال للأجيال المقبلة.
الأهم من كل ذلك حاليًّا، دول الثورات تنزف، ليست في حاجة إلى مزيد من الصراعات، لا تحتملها أصلًا حتى لا يدمر ما بقي بين الأنقاض، بل هي اليوم في حاجة إلى حلول توافقية، تفتح طرقات آمنة على قواعد سياسية ودستورية مشتركة، سواء أفَهِم الانقلابيون ذلك أم لم يفهموا، وإلا فإن التاريخ شاهد على حدوث موجات متتالية للثورات لإصلاح الثغرات.
سيذوب الثلج، ويظهر المرج، ربيعًا جليًا كما أرادته الشعوب الثائرة والمقهورة والثورات المغدورة، هذا قدر إلهي محتوم للإرادة الجمعية، فيد الله مع الإجماع، وإذا الشعب أراد الحياة فسيستجيب له القدر.
بالتالي، لم تُطو صفحة الثورات ولم تنجح الانقلابات بالشكل الذي أعدته مطابخ الثورة المضادة، بل إن هذه الانقلابات المترنحة كلها خير، فرب ضارة نافعة، حتى يُغلق بابها بشكل نهائي دون رجعة أمام كل مغامر، وليكون عبرة لغيره.