الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في رثاء الشرق الأوسط

في رثاء الشرق الأوسط

16.12.2015
معتز حيسو



الحياة
الثلاثاء 15/12/2015
شكَّل صدور كتاب "صدام الحضارات" لصموئيل هنتنغتون، مؤشراً إلى بداية تحولات جديدة مفادها أن أسباب الصراعات الكونية محض حضارية (ثقافية، إثنية، دينية ومذهبية). وفي ذلك ابتعاد كلّي من مفاهيم المنهج المادي لدراسة التطوّر التاريخي. وكان العراق نقطة البداية، وليس مستبعداً أن تندرج سورية وباقي دول الإقليم في السياق ذاته. هذا فيما تشير معطيات إلى إمكان اعتماد النموذج اللبناني في سورية. ويندرج في السياق ذاته، تصريح برنار باجوليه، مدير الاستخبارات الفرنسية: "إن الشرق الأوسط الذي نعرفه، انتهى إلى غير رجعة"، وجون برينان، مدير "سي آي إيه"، الذي يصعب عليه "أن يتخيل وجود حكومة مركزية في أي دولة تتعرّض لدمار الحرب". والتصريحان يحملان استشرافاً خطيراً لمصير الشرق الأوسط. ويحتاج بحث أسباب التحولات التي تشهدها المنطقة، إلى وضع المقدمات الأساسية في إيصال مجتمعاتنا ودولنا إلى حالتها الراهنة، حيث تتقاطع عوامل على درجة من التراكب والتناقض.
فلا أحد يستطيع تجاهل السياسات الداخلية لغير نظام عربي، والتي كانت في معظمها تصبُّ في طواحين حكومات الغرب لتأبيد سيطرتها في شرقنا الذاهب إلى حتفه. لقد اشتغلت الأنظمة العربية عموماً، على احتكار السلطة وتمكين سيطرتها على المنظمات الشعبية والمدنية، بخاصة الشبابية، كمدخل لضبط عوامل القوة المغايرة في مجتمعاتها. كما ركزت على قمع أي تحرك سياسي معارض. وكان ذلك مدخلاً إلى تجفيف منابع الفكر السياسي، إضافة إلى مساهمته في تنامي فكر متطرف يتجلى بتشكيلات جهادية تلتقي على قتل الآخر المختلف حتى لو كان مسلماً.
وهنا يجب التنويه بأن الدور الوظيفي لتلك المجموعات يتعلّق بارتهانها لمصادر التمويل، إضافة إلى أن خزائن التاريخ الأيديولوجية لم تبخل على هؤلاء بأفكار تدفعهم الى ارتكاب مزيد من الجرائم بذريعة توحيد أمة الإسلام.
أما السياسات الاقتصادية، فتصبّ على الدوام في جيوب المتسلّطين والمتنفّذين وأصحاب الرساميل، وجلّهم يدور في فلك التبعية لحركة رأس المال العالمي، وكان من نتائج ذلك تفاقم الإفقار والبطالة والنهب والتخلّف، وقد تجلى ذلك في سياسات استهلاكية ريعية تناقض كل تحوّل تنموي يرتقي باقتصادياتنا إلى مصاف الدول الغربية الأدنى تطوراً. ولم تقلّ نتائج تلك السياسات خطورة عما تحدثه نيران الحروب، إن لم تكن من أسبابها الرئيسة، محوّلة مجتمعاتنا ركاماً يفتقد الحياة والروح. ولم تكن السياسات الموجّهة إلى بنية المجتمع أقل كارثية، فالظلم والعسف والتمييز والاضطهاد تشكل أحد أسباب الانقسام على الذات، ومصدراً للتطرف، تحديداً في ظل تراجع السياسة فكراً وممارسة بهدف تأبيد سيطرة الحاكم "المتأله".
إن جملة المعطيات السابقة ترتبط عضوياً بالسياسات الدولية المحمولة على مصالح اقتصادية تهدف إلى ربط اقتصادات دول الجنوب بالشمال، ويتجلى ذلك في سياق تحطيم الحواجز والحدود أمام حركة رأس المال، وتمكين هيمنة الشركات العملاقة العابرة للحدود والجنسية، والتي باتت تفرض سيطرتها على مراكز صناعة القرار في العالم. ويرتبط ذلك مع الاشتغال على تمكين علاقة الارتهان السياسي للأنظمة الراهنة، أو المحتمل تشكيلها على قاعدة تفكيك المجتمع إلى مكوناته الأولية، وبما يتناسب مع مصالحها.
فما تشهده بلدان منطقتنا من تداعيات كارثية، يشير إلى أن مجتمعاتنا ذاهبة إلى أوضاع جيوسياسية تخالف التوقعات بنشأة أنظمة حكم ديموقراطية. والمرجَّح أن البديل عن الأنظمة المنهارة أو التي قد تنهار لن يكون ديموقراطياً. ولن ينحصر ذلك في مستوى أو دولة دون غيرهما. فالعراق وسورية وليبيا واليمن ودول أخرى تبدو في طريقها إلى التشظّي والتفتّت، ما يمكّن العداء والتنابذ بين مكوناتها الاجتماعية. وإلى أن تُكتب نهاية لحروبنا الدموية، نأمل بأن يطل علينا التاريخ برأسه الماكر ويفاجئنا بما يخالف التوقعات السابقة.