الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في سيادة الذليل

في سيادة الذليل

26.12.2017
عبدالله جنوف


العربي الجديد
الاثنين 25/12/2017
تتعدّد في لقاءات بعض زعماء العرب مواقفُ تدلّ على علاقةٍ غير متكافئة بينهم وبين زعماء العالم. فقد زار رئيسٌ أجنبيٌّ قاعدةَ بلاده العسكريّةَ في بلد عربيّ، ودعا رئيسَ ذلك البلد إلى لقائه، فأتاه سامعا مطيعا، وقابله في انكسارٍ وذلّة، ثمّ همّ بالمشي خلفه، فأخذ ضابط من القاعدة بذراعه، ومنعه كما يُمْنَع الطفل من ملاحقة أبيه. ثمّ زار هذا الزعيم الأجنبيّ نفسه بلدا عربيّا آخر، فأسرع حاكمه إلى استقباله في المطار، وصوّرته الكاميرا وهو يهرول هرولةً. وكانت قد صوّرته من قبلُ في البيت الأبيض يحاور الرئيس الأميركيّ، دونالد ترامب، وقد طأطأ رأسه، وسمّر نظره في الأرض، ولم يجرؤ على النظر في عينيه إلّا نظرة خاطفة كسيرة. ورأينا زعيما عربيّا آخر يجلس قرب زعماء غربيّين، ثمّ يقف ويدنو منهم ليُشعرهم بمكانه، فلم يلتفت إليه منهم أحد، فلمّا يئس انصرف. وأمّا إذا التقى زعماءُ العرب ووزراؤُهم رئيسَ الوزراء الإسرائيليّ، فلا يكون من الأخير إلّا التقطيب والصرامة والنظرة الحادّة، ولا يقابِلون عبوسَه إلّا بالابتسامة الذليلة والانكسار الخجول.
فإذا التقى هؤلاء بنظرائهم من العرب مَشَوْا رُويدا، وبَدَوْا سادة ذوي هيبةٍ وسلطان، وأظهروا الوقار ورباطة الجأش. فإذا خاصموهم بدا منهم بأسٌ عجيب، وتشبّثٌ بحقوق الوطن وسيادته ونخْوته. وأمّا إذا خطبوا في شعوبهم، أو حاوروا مواطنيهم، فليس لهم في الدنيا كلّها نظيرٌ ولا خطيرٌ هيبةً وحزمًا وثقةً بالنفس.
تدلّ هذه المواقف على أنّ بعض زعماء العرب ليسوا في الواقع نظراء لزعماء العالم، وليس استعمال الصحافة الرسميّة العربيّة لكلمة "نظير" إلّا استعمالا صوريّا، فلا تناظر إلّا عندما يكون الطرفان رافضيْن المنزلة السفلى والموقف الضعيف. وأمّا من عبّر بلسانه وحركة جسده عن الذلّة فليس بنظير.
وأضرّ ما في مواقفهم هو شرعنتهم علاقة اللاتناظر والهيمنة، فالخضوعُ تعبيرٌ عن الانسحاق أمام السيّد، واعترافٌ بقوّته وسلطته وتبريرٌ لتفوّقه. وليست هذه الشرعنة أمرا طارئا، بل هي سياسة ثابتة موروثة، فكثيرا ما يولد الزعيم العربيّ خاضعا للأجنبيّ، لأنّه يولد في بيئة تحكمها أسطورة مرجعيّة، هي أنّ علاقات القوّة في العالم ثابتة، وأنّ القويّ اليوم سيظلّ قويّا أبدا، والضعيف اليوم سيظلّ ضعيفا أبدا. وليس في تجارب الإنسان قوّةٌ مطلقة، ولا سيادةٌ دائمة،
"بعض زعماء العرب ليسوا في الواقع نظراء لزعماء العالم، وليس استعمال الصحافة الرسميّة العربيّة لكلمة "نظير" إلّا استعمالا صوريّا" ولكن تصوّرات أنظمة الخضوع مشكَّلة من ثقافة الهيمنة السائدة، فلا تستطيع عقولهم تجاوز علاقات الخضوع والانقياد. ثمّ ينزل الحاكم العربيّ في الممارسة عن هذا الحدّ، فتبدو عليه علامات الذلّة والهوان، ولا ينظر في وجه "نظيره/ سيّده"، وقد يعبّر بين يديه عن إعجابه الشديد به، فيراه كما يرى الطفل أباه: يحبّه ويوقّره ويخافه أيضا.
وقد يَعُدّ هؤلاء الزعماء الخضوعَ عملا تبادُلِيًّا، ويعتبرونه من فنون السياسة، فهو مقصودٌ للحصول من الزعيم "النظير" على مطالب مهمّة، قد تكون تخفيف حصار، أو تقديم مساعدة ماليّة، أو غير ذلك. وما أبخس هذه المطالب، إذا دفع فيها صاحبُها عزّةَ نفسه وسيادةَ وطنه. فمتى استسلم النظير "لنظيره"، وصار تابعا له في آرائه وسياساته، ومكّنه من التدخّل في قراراته، فقد وَسَم نفسه بطابع الخضوع، وهاجم جهاز السيادة في شخصيّته، فيدمّر ذاته بنفسه، ويتصوّر أنّه يمارس السياسة باعتبارها فنّ الممكن، وهو يذلّ نفسه وشعبه، ويهين وطنه وأمّته، ويتنازل عن أوّل شرطٍ من شروط التناظر.
ويستحيل على من كانت هذه حاله أن يعمل عملا حقيقيّا على تحسين شروط التفاوض مثلا، أو أن يحرص على تحرير وطن، أو أن يساهم في ردّ العدوان عن شعبٍ مظلوم، أو أن يكون نصيرا لقضيّةٍ مقدّسة؛ ويكون في ذلك كله مستقلّا استقلالا تامّا عن الخارج، فهذه الأعمال الجليلة جميعا لا يقْدر على المساهمة فيها إلّا الزعيم المدرك لمناظرته الحقيقيّة لزعماء العالم. حتّى "الزعيم المقاوم" الذي ملأ الدنيا حديثا عن السيادة ينحطّ عن هذه المنزلة، لأنّه لا يرى مصلحة وطنه وأمّته إلّا بعيني إمامه، ولا سيادة له إلّا بالكيفيّة التي صاغها مُنَشِّئُهُ، ولا مانع في سياسته واعتقاده من المشاركة في استئصال شعبٍ عربيّ، ثار على الظلم والاستبداد.
ولا يمكن أن يستفيد هؤلاء الزعماء من التيّار العربيّ العامّ، المطالب بالسيادة الحقيقيّة والاستقلال الفعليّ، ولا يستطيعون ترجمة قوّته ومطالبته ومظاهراته وانفعالاته إلى إرادة سياسيّة عربيّة مستقلّة. "فالمقاوم" منهم يزعُم أنّه ضمير الشعب، وصوت الشارع، ونصير المستضعفين، ولكنّ أفقه مسدودٌ بعمامة الإمام، أو رعب القيصر. وأمّا أكثرهم فيحتقرون مواطنيهم، ويعتبرون هذه الأعمال هرجا وخروجا عن النظام والسيادة، وإضرارا بمصالح الوطن، ولا يتردّدون في استعمال قوّةٍ، وصَفَها بعضهم بالغاشمة، في إخماد أنفاس شعوبهم. وقد يكون الاحتقار والتجاهل والاستعلاء والقسوة نتائج لشعورهم بالنقص، وتعويضا عن هوان مُقِيم في نفوسهم، وذلّة غالبة على سلوكهم، "وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ".