الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في ضرورة ‘معركة الساحل’… المقدمات المنسية والنتائج النخبوية

في ضرورة ‘معركة الساحل’… المقدمات المنسية والنتائج النخبوية

19.04.2014
صادق أبو حامد


القدس العربي
الخميس 17/4/2014
يصعب على مراقب خارجي للشأن السوري أن يفهم تعالي بعض أصوات المعارضين رفضاً لمعركة الساحل. يصعب عليه أن يفهم رفض الاقتتال في منطقة محددة ضمن بلد تطحنه الحرب، وتزداد صعوبة الفهم عندما نعرف أن تلك المنطقة هي الحاضنة الأساسية لجيش النظام، ومنبع عناصره، بل وأكثر من ذلك، هي المنطقة التي يُخشى في قادم الأيام أن تكون نواة دولة بديلة لنظام أجرم حتى الثمالة في حق الشعب.
أسئلة المراقب الخارجي قد تجد جوابها في الثقافة السياسية للاستبداد الأسدي. فطوال حكمه، بل ومنذ استولى حزب البعث على السطلة عام 1963، وسيطرت مجموعة من الضباط العلويين على الحكم، تم الترويج لثقافة سياسية ‘وطنية’ تضع خطاً أحمر أمام أي نقاش في الشأن الطائفي، وبات التلميح في هذا الاتجاه يعتبر خيانة وطنية، ما جعل أحزاب المعارضة تتجنب الخوض في المحظور، وتبعها في ذلك الوسط الثقافي والفكري.
بالتوازي مع هذه الخطوط الحمراء، كان حافظ الأسد يبني مملكته بهدوء، موفراً الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتفكيك المواطنة، ولتعميق الانقسام بين الطوائف والقوميات، ولجعل الطائفة العلوية ترتبط نهائياً بنظامه وبمؤسساته العسكرية والأمنية.
غير أن انتصار هذه الثقافة السياسية التعتيمية ظل محصوراً في أوساط النخبة والطبقة السياسية، بينما كان الاحتقان الطائفي والشعور الحاد بالغبن يتصاعد باضطراد. تصاعد كُسرت تجلياته الظاهرية مع الصدام الدموي بين الأخوان المسلمين والنظام، إلا أنه استمر عميقاً ثابتاً في الوجدان الشعبي، وخاصة لدى السنّة ممن يعتبرون أن العلويين سرقوا سيادتهم التاريخية، وقمعوا أكثريتهم، ناهيك عن الانتهاكات المستمرة التي تعرضوا لها، وسواهم، من قبل قوى الأمن والجيش.
لم يكن الاحتقان الطائفي إذن وليداً للثورة كما يحاول البعض إظهاره، بل إنه شكّل أحد أسباب انتشار الثورة في البيئات الريفية والضواحي السنية، وهو كذلك أحد أسباب حذر ومن ثم عداء البيئات الريفية والضواحي العلوية لهذه الثورة. غير أن الأشهر الأولى من الثورة السورية كانت واعدة وحالمة ومتفائلة ما جعلها قادرة على التحلي بالمدنية. لذلك كانت الثورة في بداياتها أقل اكتراثاً بتفاصيل الصراع الطائفي، خاصة وأن سقوط الأسد ومعالم المستقبل الجديد للبلاد، كانت لا تزال حاضرة في الخيال بوضوح، ما يعني أن روح التسامح والبحث عن أفضل السبل لبناء سوريا المستقبل كانت هي المسيطرة.
نقل النظام المشهد إلى مرحلة العنف والدمار والصراع المسلح، وساعد على ذلك تحول الثورة من حراك واضح الوجهة نحو المستقبل الديمقراطي، إلى سلسلة متنافرة من التحركات يجمعها حس الدفاع عن الأهل والانتقام، وأفقها ينحصر في إسقاط النظام، بينما باتت معالم سوريا المستقبل قضية مؤجلة وموضع خلاف. كما كان للانتهاكات المروعة التي ارتكبها جند النظام، والعناوين الطائفية لتلك الانتهاكات، أن جعلت الحس الطائفي محركاً أساسياً في الصراع لدى الجانبين، وعلى أتباعهما من القادمين لنصرة هذا الطرف أو ذاك.
وسط هذا المشهد من الاحتراب الشامل، يزيد بعض المثقفين والسياسيين المعارضين القضية إرباكاً بإعادة استحضار الثقافة السياسية لنظام البعث، باستعادة سياسة التعتيم على واقع الحال، وإخفاء التشرذم الطائفي الذي يفقع العين، وفق منهج يخلط بين نقاش الطائفية وتفكيكها، وبين الترويج لها وتعميقها. فالحرب في سوريا ليست طائفية بعد، والعنوان السني العلوي للصراع لا مكان له، والحرب الأهلية ما زالت بعيدة عنا، وسوريا مهد الحضارة لم تشهد يوماً تنافراً طائفياً. ادعاءات كاذبة في عمقها، وبراغماتية في غلافها. وكأن هذه الشريحة لم تدرك بعد حجم إساءتها إلى هذا الشعب عندما أقفلت النقاش في مرض الطائفية، ولم تدرك مقدار مساهمتها في تعزيز التطرف الطائفي عندما حمت خطوط النظام الحمراء، لتترك نقاش الطائفية في البيئات المعتمة والمتطرفة واللا عقلانية.
يرى الجميع ويسمع ويعرف اليوم أن الفرز الطائفي بات على درجة قاطعة من العلنية، وأنه إذا كان هناك استثناء لهذه القاعدة فهو ذلك الذي ما زال النظام قادراً على استثماره، بالترهيب المباشر أو بالتخويف من الاحتمالات المتطرفة في المستقبل. أما خارج إطاره، فالخارطة السورية تقدم لوحة ساطعة للتقسيمات الطائفية، فهناك مناطق محيدة، ومناطق اكثرية مستباحة واخرى آمنة هي،
حديقة النظام: الساحل. المنطقة التي تعتبر مرتع الشبيحة والبيئة الحاضنة لدعاية النظام السياسية والعسكرية من خلال الحضور الكبير للطائفة العلوية فيها. الطائفة التي ابتليت بالنظام حتى كاد يغرقها معه. ويبدو أنه لا توجد قراءة علمية للواقع السوري يمكن أن تخفف من درجة ارتباط الطائفة العلوية بالنظام، وهو ارتباط استغل النظام فيه الطائفة ولا شك، لكنه في المحصلة سواء أقمنا التحليل على مقياس طائفي، أم قبلي، أم اقتصادي واجتماعي، فإن النظام الأسدي استطاع أن يربط هذا التجمع البشري بمجموعة من المصالح والمخاوف ليصبح كتلة متراصة لحماية المستبد، وليدفع ثمناً باهظاً من دم أبنائه في مهمة الحماية تلك.
ليس تعصباً، وهذه الحال، أن يُدهش الناس من المواقف الرافضة لمعركة الساحل بينما البراميل المتساقطة فوق أحيائهم لا تبقي ولا تذر، وليست شعبوية أن يُدافَع عن تلك المعركة باعتبارها لحظة مهمة من الصراع مع النظام. بل إن ما يستحق التساؤل هو تأخر هذه المعركة، وضعف إمكانيات جميع التحركات العسكرية المعارضة التي تمت في الساحل.
واقع الحال أن ما أخّر معركة الساحل هو القرار الخارجي، فساسة الخارج، من الدول العظمى إلى توابعهم والمقيدين برأيهم، يعلمون أن دم الأقلية، ودماء الطائفية، أجدر بالاهتمام والتغطية الإعلامية، لذلك ترضيهم الصورة المزيفة التي ينقلها الإعلام اليوم، وتسعدهم مقالات ثلّة المثقفين والمحللين المخلصة، بوعي أو بغير وعي، لتراث ثقافة الاستبداد الأسدي، ليبقى تعبير العنف الطائفي مرتبطاً فقط بأي تجاوزات للمعارضة، أو حتى ادعاءات بتجاوزات، ذلك أن المعارضة متطرفة بلا أدنى شك، أما النظام الطائفي العائلي، المستنجد بالتفريعات الطائفية حتى آخر أغصانها، فهو ما زال نظاماً ودولة دون هوية طائفية!!
ليس لأحد أن ينكر النهج الإسلامي المتشدد الذي يطبع الكثير من الكتائب المقاتلة في معركة الساحل، لكن أليست هذه هي حال المعارضة المسلحة في كل تضاريس الوطن! فلماذا إذن نقبل معاركهم في مناطق أخرى، فنحييهم في حلب وريف حلب ودير الزور وحماه وحمص والرقة وإدلب ودرعا، ونحيي صمودهم في القصير ويبرود وريف دمشق، ثم نرفضهم جملة وتفصيلاً حين يطأون أرض الساحل؟
إن تقدم المعارضة عسكرياً في الساحل، هو تحطيم لأسطورة النظام الذي لا يقهر، وهي إلى ذلك استدعاء لقوته المنتشرة ذبحاً وسفحاً في أرجاء البلاد، وفوق ذلك تدفع ضباط الأمن والجيش المنتمين إلى تلك المناطق إلى العودة إلى أهلهم في الساحل، بدلاً من أن يمارسوا دعاية النظام بحماية أهاليهم وطائفتهم في مواقعهم البعيدة شرق وشمال وجنوب البلاد. بل لعل معركة الساحل، لو كان لها فرصة الوجود منذ سنتين، لمثّلت أصعب التحديات للحفاظ على وحدة وتوازن جيش النظام.
إن رفض المساس بالجغرافيا الطائفية التي رسمها النظام هي بشكل ما اعتراف بقسمته الطائفية، خاصة وأن المعارضين لكسر تلك الجغرافيا عادة ما يتجاهلون مئات الآلاف من سنّة الساحل الذين احتملوا اضطهاداً طائفياً صارخاً طوال عقود، وقُمعوا في بداية الثورة حتى تقطعت أوصالهم بين شريد وشهيد ومعتقل ومقموع تحت حكم الشبيحة، ليمثّل شبابهم اليوم عصب الكتائب المحاربة في جبهة الساحل.
ليس من السهل على من ليس لديه سوى الرأي سلاحاً، أن يدخل في غمار الدم والحروب، ولعل الهانئ هو من يجلس على سحابة نخبويته رافعاً راية السلام فوق الجثث المتراكمة، ومرتاحاً لنظافته من كل الدماء المتناثرة بين البشر، لكن إن كان من الصحيح دائماً أن الحرب بشعة، وأن التطرف آفة، فإن المبدأ يقتضي، طالما أن أحداً منا لا يستطيع إيقاف الحرب، أن نقف إلى جانب المظلوم والمقهور.