الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في عامها الخامس.. سوريا (الثورة) وسوريا (القضية) (1)

في عامها الخامس.. سوريا (الثورة) وسوريا (القضية) (1)

16.03.2015
د. وائل مرزا



الشرق الاوسط
الاحد 15-3-2015
من مفارقات الأقدار أن يكون هناك كتابٌ للمفكر فرانز فانون بعنوان (العام الخامس للثورة الجزائرية)، يتمحور فكرُ الكاتب الفرنسي ذي البشرة السوداء، حول قدرة شعوب العالم الثالث على فرض ذاتها وصناعة تاريخها وتقرير مصيرها. هذا الكاتب الذي كان نصيراً للثورة الجزائرية، بالكلمة والفكرة والمساهمة العملية كثائر، قال يوماً عن تلك الثورة: "النظرية القائلة بأن الناس يتغيرون في اللحظة نفسها التي يغيرون فيها العالم لم تكن يوماً بارزة في بلد آخر غير الجزائر". لا نعلم ما كان للرجل قولهُ لو كان يعيش اليوم معنا الثورة السورية وهي تدخل عامها الخامس، لكن المؤكد أن عبارتهُ تلك تنطبق اليوم على سوريا وثورتها وشعبها كما لا تنطبق على أي قضيةٍ أخرى.
السوريون يتغيرون في اللحظة نفسها التي يُغيرون فيها العالم، ثمة شواهد كثيرة على أن النظام العالمي يدخل في طورٍ جديد، وأن هذه العملية تتأثر وستتأثر بما يجري في سوريا، لكن المؤكد أن السوريين يتغيرون في نفس هذه اللحظة التاريخية، وأن مستقبلهم ومستقبل ثورتهم رهينان بطبيعة ذلك التغيير.
فمع دخول الثورة السورية في عامها الخامس، يَفرضُ السؤال التالي نفسه: هل هناك تضاربٌ بين استمرار (الثورة) كمفهوم وكواقع، وكصيرورةٍ طويلة المدى ومتعددة المراحل، وبين الاعتراف بأن السوريين صاروا في مواجهة واقعٍ جديد يمكن أن نسميه (القضية السورية)؟ نحسبُ أن التضارب موهوم، وأن مثل هذا الاعتراف لا يجب أن يكون أمراً سلبياً كما يظن البعض.
يُحيلُ الاعتراف المذكور إلى القبول بحقيقتين: إنﱠ العمل للقضية سيكون طويل الأمد زمنياً، ثم إنه سيكون في مجالات تتجاوز بكثير المجالين السياسي والعسكري. وفي حين أن انتقال السوريين، نفسياً وفكرياً وعملياً، إلى المرحلة الجديدة بشكلٍ إراديٍ واعٍ لن تكون له إلا نتائج إيجابية راهناً وعلى المدى الاستراتيجي، فإن قائمة السلبيات يمكن أن تطول في حال رفضوا عملية الاعتراف وزهدوا في العمل بمقتضياتها.
باختصار، السوريون جميعاً اليوم أمام خيارٍ حساس، فإما أن يسمحوا لهذه (القضية) أن تُصبح قضيةً (أخرى) من القضايا المعروفة في العالم العربي، وخارجه. بمعنى أن تتحكمَ فيها الظروف الخارجية واللاعبون الخارجيون بنسبةٍ كبيرة. أو يجعلوا من ثورتهم الفريدة فرصةً لتقديم نموذجٍ مُختلف لخدمة (قضيتهم)، يليق بهم وبإمكاناتهم وتاريخهم وتجاربهم، نموذجٍ يكونون هم فيه الأكثر تأثيراً في القضية وتحكُماً فيها.
هذا لا يعني، بأي حال، الغفلة عن استمرار تأثير الظروف الخارجية واللاعبين الخارجيين. لكنه يعني أن يرفع السوريون قدرتهم على التأثير في قضيتهم بشكلٍ يدرك لغة العصر ويستخدم مفرداته باحتراف، ويستفيد، فعلياً، من تجربة السنوات الماضية من عمر الثورة وكل ما أفرزته من دروس.
ففي ظل استمرار الثورة السورية، بكل ما قدمه الشعب السوري، ولا يزال، من تضحيات. وفي ظل افتقاد تشكيلات المعارضة السياسية السورية القدرة على القيام بالوظائف الأساسية المطلوبة لدعم الثورة وشعبها في المجالات التنموية والإغاثية والاجتماعية والإعلامية والثقافية، تبدو الحاجة ضروريةً للقيام بأعمال مؤسسية منظمة تمتلك القدرة على أداء تلك الوظائف، بعيداً عن الغرق في مماحكات العمل السياسي بشكله السائد في أوساط المعارضة السورية.
وفي انتظار ما يمكن أن تُسفر عنه محاولات إصلاح الائتلاف الوطني من قبل القيادة الحالية، ثمة مفارقةٌ يجب التفكير فيها: فقد كان قيامُ الأجسام السياسية مثل المجلس الوطني والائتلاف أصلاً محاولةً لتأمين تمثيلٍ سياسي للثورة. وكان المفروض أن تتعامل هذه الأجسام بمهارة وفكر سياسي متميز مع النظام الإقليمي والدولي بما يكفل تأمين الدعم للثورة، وصولاً إلى تأمين مقومات انتصارها على نظام الأسد من خلال إدارة الصراع السياسي والعسكري بشكلٍ فعال ومنظم.
ورغم أن الهدف العملي الممكن، والوحيد تقريباً، من إقامة تلك المؤسسات كان يتمثل في الوظيفة المذكورة، إلا أنها لم تستطع تحقيق ذلك الهدف بإجماعِ السوريين.
لكن المشكلة الكبيرة الأخرى تمثلت في ظنِّ بعض المعارضين السوريين، وكثيرٍ من أبناء الثورة، أن قيام مثل هذه المؤسسات هو بمثابة وجود بديل لـ(الدولة) يقوم بوظائفها ويؤدي مهامها، إن في (المناطق المحررة) على الأقل، أو في كل ما يمكن الوصول إليه من مناطق سوريا الجغرافية.
أدﱠى هذا من البداية إلى وجود ظاهرتين في أوساط الشعب السوري المؤيد للثورة، تتمثل الأولى في (استقالة) الكثيرين من العمل الفعلي لها بناءً على الاعتقاد السابق وانتظاراً لما ستقوم به تلك الأجسام السياسية من تغطية للوظائف المطلوبة. أما الظاهرة الثانية فتمثلت في عشوائية العمل للثورة في صفوف من تصدوا له، خارج أطر العمل السياسي، وفي تشتت الجهود وتكرار التجارب وبعثرة الطاقات، بشكلٍ قلَّلَ من فعالية تلك الجهود، على ما قدمته من خدمات وإنجازات، وما كان فيها من معاني كبيرة للبذل والعطاء.
بهذا، فَقَدَت الثورة السورية من البداية سنداً مكيناً أساسياً لها يتمثل في الدعم الهائل الذي كان يمكن أن تحصل عليه لو تم العمل بشكلٍ مؤسسي محترف في المجالات المختلفة، إذا أخذنا بعين الاعتبار خبرات السوريين وإمكاناتهم المادية والبشرية الهائلة التي يمكن مُراكمتها في تجمعاتهم وأماكن وجودهم سواء داخل سوريا أو خارجها، بل إن من الممكن القول إن الثورة كان يمكن أن تكون في موقعٍ متقدم اليوم، لو تمت إدارةُ نفس الجهود التي تم بذلها وتوظيفُ نفس الميزانيات التي أنفقتها شرائح السوريين، من بداية الثورة إلى الآن، بشكلٍ مؤسسي مُحترف.