الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في عامها الخامس.. سوريا (الثورة) وسوريا (القضية) (2)

في عامها الخامس.. سوريا (الثورة) وسوريا (القضية) (2)

23.03.2015
د. وائل مرزا



الشرق القطرية
الاحد 22-3-2015
بعد شيوع الظن في أوساط السوريين أن وجود أجسام المعارضة السياسية يُمثلُ بديلا لـ (الدولة) يقوم بوظائفها ويؤدي مهامها، (استقال) الكثيرون من العمل الفعلي للثورة انتظاراً لما ستقوم به تلك الأجسام من تغطيةٍ للوظائف المطلوبة. كما سادت العشوائية في العمل في صفوف من تصدوا له خارج أطر العمل السياسي. تمثل هذا في تشتت الجهود وتكرار التجارب وبعثرة الطاقات، بشكلٍ قلَّلَ من فعالية تلك الجهود، على ماقدمته من خدمات وإنجازات، وماكان فيها من معانٍ كبيرة للبذل والعطاء. وكان أن فَقَدَت الثورة السورية من البداية سنداً مكيناً أساسياً لها يتمثل في الدعم الهائل الذي كان يمكن أن تحصل عليه لو تم العمل بشكلٍ مؤسسي محترف في المجالات المختلفة.
تصاعد حجم المشكلة مع ابتعاد المئات من النشطاء ودوائر النخب السورية المتنوعة عن فكرة (إدارة الثورة). وجاء هذا انسجاماً مع ابتعادهم عن مؤسسات المعارضة السياسية التي (احتكرت)، نفسياً وعملياً، تلك الإدارة. وما إن ظهرت مشكلات الهياكل السياسية التي غرقت في واقعٍ تتضارب ملامحه مع المعاني والقيم الأصيلة التي قامت عليها الثورة، حتى أصبح تجنُّبُ العمل في تلك الهياكل، بل وتجنبُ الاقتراب منها، أمراً طبيعياً لدى كل من يحاولون تَمثُّلَ تلك القيم الأصيلة في حياتهم العامة والخاصة. بعد إذ صار الوجود فيها أو قريباً منها يعني التلوث بتهم الفساد والتبعية والانتفاع، وغيرها من الصفات.
هكذا، خسرت الثورة السورية أيضاً شريحةً أساسية كان يمكن أن تكون في موقع القيادة لها. خاصةً أن هذه الشريحة كانت في معظمها هي السباقة إلى إشعال الثورة وإلى ابتكار فعالياتها ونشاطاتها الأساسية التي جعلت منها ظاهرةً من أنبل ظواهر العصر. ثم إن الأيام أظهرت أن هذه الشريحة كانت أيضاً الأكثر حرصاً على اجتناب (التربُّح) من الثورة إلى درجة معاناتها الحياتية في بعض الأحيان لتبقى نظيفة اليد والسمعة.
وفي نهاية المطاف، أصبحت الثورة السورية عالةً على تلك المجاميع السياسية التي لم يعد وجودُها، بكل مافيه من ضجيج، يحمل أي طاقة إيجابية فعالة تصب في خانة تحقيق أهدافها من قريبٍ أو بعيد.
ومع (الاعتراف) السياسي اللفظي بتلك المجاميع من قبل المجتمع الدولي، والرضا البالغ لهذا المجتمع عن وضعها المُشوَّه الذي يُساعد على إعفائه من القيام بمسؤولياته السياسية والأخلاقية تجاه الشعب السوري، حُوصرت الثورة السورية بشكلٍ غير مسبوق ليس فقط على المستويات العملية والسياسية، بل وعلى المستوى النفسي الذي وصلَ فيه السوريون إلى الإحساس بدرجةٍ من الشلل تُعيقهم عن المبادرة والحركة لخدمة ثورتهم، ومرةً أخرى، بشكلٍ يليق بتجارب وخبرات وإمكانات السوريين المادية والبشرية والفكرية.
هكذا، وصلنا إلى واقعٍ للثورة يُصيب السوريين بدرجات متفاوتة من الحيرة واليأس. وهي، بمآلاتها وتفاصيلها الحالية، تُثير من الأسئلة أكثر مما توحي بالإجابات.
وكما ذكرنا سابقاً، سنظل مُحتارين في فهم الظاهرة، فضلاً عن التعامل معها، مالم نُدرك، بعد سنوات من عمر الثورة، بعض الحقائق الصعبة، ومالم نعترف بها بكل وضوحٍ وصراحة.
لم تنطلق الثورة السورية من تراكمٍ ثقافي وحضاري وصل إليه الإنسان السوري ودَفعهُ إلى الدخول الواعي والمُخطَط في عملية تغييرٍ كُبرى.
ليست هذه طبيعة الثورات في جميع الأحوال.
بهذا المعنى، تكون الثورة الحقيقية خروجاً من مشهدٍ للاجتماع البشري لم يعد استمرارهُ ممكناً وفق قوانين ذلك الاجتماع وسُننه التاريخية، ودخولاً في عملية بحثٍ جدﱢية عن مشهدٍ يمكن أن يستوعب المستجدات والمتغيرات الجديدة المحيطة بالمجتمع صاحب العلاقة.
الثورة هنا عملية (انخلاع) جذرية من حاضرٍ صار مرفوضاً على جميع المستويات، وكلما كان الحاضرُ (يمثله النظام السوري في هذه الحالة) مُصراً على الاستمرار بأي ثمن، كانت عملية الانخلاع منه أكثر عُنفاً وصخَباً. أما الرفض الذي نتحدث عنه فهو في جوهره رفضٌ نفسيٌ عميقٌ جداً يطرح على أصحابه التساؤلات حول جدوى الوجود والحياة في ذلك الحاضر أصلاً.
وعندما تصل الشعوب إلى هذه المرحلة يُصبح لديها دافعٌ قويٌ للقبول بتضحياتٍ لايمكن تفسيرُها على الإطلاق في الأوضاع العادية. فهنا، يُضحي الأمل في بديلٍ مستقبليٍ، وفي محاولة إيجاده، أكبرَ من الحرص الآني على الوجود وعلى الحياة نفسها في حاضرٍ انتهى احتمالُ وجود معنىً للحياة فيه. في حين أن هناك (احتمالاً) في أن يكون لدى البديل المنشود مايُعطي للوجود والحياة معنىً وقيمة.
لهذا تكون الثورة الحقيقية طويلة. ولهذا تكون على مراحل. ولهذا تكون عنيفة.
أين وصلت الثورة السورية اليوم إذاً؟ وماهي طبيعة المرحلة القادمة في مسيرتها؟
بمعناها الأكبر، أظهرت الثورة قرار الشعب بالرفض القاطع والنهائي لواقعٍ كان مفروضاً عليه، وأكَّد، عبر تضحياتٍ قياسية في تاريخ الشعوب، تصميمه على الانخلاع من ذلك الواقع والخروج منه دون عودة. لكن واقع الثورة اليوم يبدو مؤشراً على دخولها في مرحلة البحث عن البديل، أكثر من كونه دليلاً على تحقيق أهداف الثورة.
المفارقة أن ملامح هذا البديل لايمكن أن تظهر في معزلٍ عن نقلةٍ معرفية في التفكير والعمل تؤمن الشروط المطلوبة للتعامل مع التحديات المذكورة، قد يمكن القول بأنها المرحلة الثانية من الثورة، والتي لامفر منها لتحقيق الأهداف الأصيلة للأولى. وستبقى تتعايش وتتفاعل حتماً مع كل مشاعر الألم تجاه مايجري، لكنها لايمكن أن تقع فريسة الضغوط العملية والنفسية الراهنة التي توحي بضرورة إيجاد حلول سريعة وعاجلة، لأن الحلول الحقيقية لن توجد إلا بالعمل التدريجي على المسار الطويل.