الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في غياب الإستراتيجية الواضحة قتل سليماني لن يحل مشكلة أمريكا مع إيران

في غياب الإستراتيجية الواضحة قتل سليماني لن يحل مشكلة أمريكا مع إيران

13.01.2020
إبراهيم درويش



القدس العربي
الاحد 12/1/2020
لن ينتهي الجدل حول مقتل قاسم سليماني وأثره على مستقبل المواجهة الأمريكية-الإيرانية وموقف الحلفاء في المنطقة من القرار. وسيظل مقتله محلا للتساؤل وإن كان تعبيرا عن سياسة حازمة أم قرارا متعجلا يرضي نرجسية الرئيس الذي ربت على كتفيه، واقتنع أنه قتل قائد فيلق القدس وقبله زعيم تنظيم “الدولة” الإسلامية.
مع أن الرئيس دونالد ترامب لم ينتبه إلى أنه ضحى بحليفه العراقي على منبر النزاع مع إيران وأغضب قادته الذين سارعوا وبتأثير من إيران للطلب من البرلمان التصويت على خروج القوات الأمريكية البالغ عددها 5.000 جندي من العراق. ومع أن القرار غير ملزم للحكومة العراقية، إلا أن البلد واقع اليوم بين مطرقة إيران وسندان أمريكا. فبغداد لا تستطيع الاستغناء عن السلاح والمال الأمريكي من جهة، وهي تسير منذ عام 2003 في الفلك الإيراني من جهة أخرى. وفي بعض الأحيان تسير السياسة العراقية نحو الحافة لتعود منها، إلا ان قرار البرلمان الذي قاطعه الأكراد والسنة يثير أسئلة حول الطريقة التي ستعمل من خلالها القوات الأمريكية في العراق وتواصل مهامها ضد تنظيم “الدولة”. وأشار دانيال بينم، المسؤول في إدارة باراك أوباما بمقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” (5/1/2020) إلى محاولات القوى العراقية المستمرة لطرد القوات الأمريكية وفشلها، إلا أن الوضع مختلف هذه المرة. فالنخبة السياسية تشعر بالضعف بعد التظاهرات الشعبية وتواجه أكبر أزمة لها منذ 15 عاما، وكذا علاقتها مع الولايات المتحدة. ولو افترضنا أن أيام الجنود الأمريكيين باتت معدودة في العراق، فإنهم لو خرجوا فسيكون انتصارا طالما حاول سليماني تحقيقه لكي يتخلص من عدو ظل يمثل قوة موازية لإيران التي تمتد حدودها مع العراق على طول 900 ميل. ولو حدث أن خرج الأمريكيون من العراق فسيكون نتاجا للسياسة التي انتهجها ترامب مع إيران وتعامله مع العراق باعتباره فكرة ثانوية أو مرفقا مخيبا للآمال لسياسة الضغط الأقصى التي يمارسها ترامب. ففي عام 2018 زار ترامب القوات الأمريكية في العراق دونما لقاء مع أي من المسؤولين العراقيين. ولم يكن لدى الإدارة ولا شخصية أي ارتباط مع المسؤولين العراقيين، وحتى عندما زاد التوتر مع العراق سحبت الخارجية دبلوماسييها من جنوب العراق، وطلبت من الدبلوماسيين غير الضروريين مغادرة بغداد وأربيل.
لا رؤية
ويكشف موقف ترامب من العراق غياب الإستراتيجية الواضحة من إيران، فلو وجدت سياسة منطقية لعاملت العراق كشريك مهم بدلا من ساحة حرب مع طهران. وكما قالت أبيغال تريسي بمجلة “فانيتي فير” (8/1/2020) فعدم رد ترامب على الهجمات الصاروخية التي أطلقتها إيران ضد قاعدتين عسكريتين في العراق إيجابي، لكن السؤال هو ماذا بعد؟ ويرى مسؤول سابق عمل في الخدمات الخارجية في ظل إدارة باراك أوباما أن إيران انتهزت كل الفرص التي أتيحت لها وتصرفت بمسؤولية، وهذا لا يعني اعفاءها من الأشياء الفظيعة التي ارتكبتها ولكنهم تصرفوا بمسؤولية أكثر من الرئيس في إدارة الأزمة. وقال إن ما يحير العقل هو أن المسؤولين قلقون بشأن الطريقة التي يتعامل فيها الرئيس مع الأزمة وليس الرد الانتقامي من الطرف الآخر. وترى تريسي أن المسؤولين الذين تحدثت إليهم يعتقدون أن الانتقام الإيراني لمقتل سليماني لم يكتمل بعد، وهم يحضرون أنفسهم لعمليات اختطاف أو هجمات إلكترونية. وحسب نيكولاس بيرنز السفير الأمريكي السابق إلى الناتو فتصرف ترامب بعد الهجمات الإيرانية كان حكيما لكنه فشل في رسم طريق للأمام مع إيران. وبدلا من ذلك فإنه راوح بين التهديد وتدمير إرث سلفه في الاتفاقية النووية والشعور بالرضى عن نفسه بأنه قتل سليماني والبغدادي. وقال بيرنز معلقا على خطاب ترامب بعد الهجوم الإيراني إنه كان مثيرا للتشوش، فمن غير الواضح أنه يريد احتواء إيران عبر الردع أم اضعافها بطريقة تقود لتغيير النظام فيها. وهو بحاجة لأن يعلم الرأي العام والكونغرس وحلفاء أمريكا نهجا واضحا وإلا فلن يحصل على دعم محلي أو من الحلفاء لأي تحرك يقوم به. وكل ما يخشاه الدبلوماسيون في أعقاب مقتل سليماني هو عدم وجود سياسة واضحة، فقد فشلت إدارة ترامب في التحضير للرد الدولي والإيراني. وفوجئت الإدارة بقرار البرلمان العراقي الذي طالب خروج القوات الأمريكية، في وقت لم يقدم فيه مايك بومبيو أو مارك إسبر تفاصيل عن التهديدات المحتومة التي تنتظر أمريكا وأدت لقرار القتل. وبعيدا عن سياسة “أمريكا أولا” لم يطور ترامب استراتيجية متماسكة في السياسة الخارجية، بل التزم سياسة داخلية تؤثر على مواقف أمريكا في الخارج. وما يعلم سياسته الخارجية هو “عمل عكس ما عمله أوباما”. ويعني غياب الإستراتيجية المتماسكة ونشر المخاوف في الشرق الأوسط، خاصة أنه أحاط نفسه بمجموعة من الصقور الذين يريدون تغيير النظام الإيراني. وأهم هؤلاء هو مايك بومبيو الذي كشفت صحيفة “واشنطن بوست” (8/1/2020) أنه مع مايك بنس، نائب الرئيس كانا من أشد الداعين لاغتيال سليماني.
امتحانان
 وسياسة خارجية تقوم على النزوات لن تحقق الكثير، وهو ما دعا مجلة “إيكونوميست” (9/1/2020) التساؤل عن مقتل سليماني وإن كان “ضربة معلم أو ضربا من الجنون” وقالت إن الرئيس نفسه لا يعرف ماذا سيحدث بعد عملية القتل، ونجاح تجميد سليماني الشخص الذي كان استثنائيا في شبكات الإرهاب التي أقامها سيكون عبر امتحان الردع وموقف إيران الإقليمي. ففي الامتحان الأول كان قتل الجنرال في 3 كانون الثاني (يناير) بمثابة الرسالة وهو أن أمريكا مستعدة للرد، وعليه فالرد الإيراني المنضبط يوم الثلاثاء يعطي صورة أنها لا تريد مواجهة قصف جوي من أمريكا. إلا أن طهران لن تتخلى عن الانتقام لسليماني، وسيكون الرد من خلال أساليب الحرب غير المنسقة، التي أحكم الحرس الثوري أدواتها. أما الامتحان الثاني فسيظهر مقتل سليماني إن كانت إيران فقدت السيطرة على جيرانها وشبكة الميليشيات التابعة لها والقواعد المتقدمة لقوات فيلق القدس الممتدة من البحر المتوسط إلى بحر العرب. وربما غياب سليماني سيحرم هذه الشبكة من مهندسها. ومن الباكر لأوانه الحكم على قدرات خليفته، ولكن سليماني كان شخصية استثنائية وسيترك فراغا برحيله. والمشكلة الآن هي أن إيران مصممة على إخراج الأمريكيين من الشرق الأوسط بعد مقتله. وستبدأ من العراق الذي تفوقت فيه على أمريكا. وتسيطر على الحكومة فيه الجماعات الشيعية. وعلينا ألا ننسى الملف النووي. فقد خرج ترامب من المعاهدة النووية التي وقعها سلفه مع ست من القوى العالمية عام 2015 من أجل إجبار طهران على معاهدة جديدة حسب شروطه وتشمل نشاطاتها غير النووية بما فيها التأثير الإقليمي. في الصيف الماضي كانت هناك تقارير حول موافقة إيران على التفاوض، ولكن التكهنات هذه أصبحت خارج التفكير. وبالتأكيد ففي 5 كانون الثاني (يناير) قالت إيران إنها لن تلتزم بالقيود المفروضة عليها لتخصيب اليورانيوم. ويعني غياب الإستراتيجية الأمريكية الواضحة أن قتلها للجنرال لن يؤدي إلا لزيادة العقوبات والتهديد باستخدام القوة حال تصرفت إيران بطريقة لا ترضي واشنطن. ولن يؤدي تجويع أمريكا إيران إلى خضوعها، ففي الماضي تحملت أنظمة أخرى العقوبات الأمريكية لمدة أطول. ولا يوجد أي طريق للسلام الذي تحدث عنه ترامب هذا الأسبوع. ولعدم وجود خطوط حمراء واضحة فاحتمالات الإنجرار إلى الحرب تظل قائمة. ومع مرور الوقت ستفقد العقوبات والردع قيمتهما. ولو أرادت أمريكا نهجا ناجعا، فالثمن هو جولات من العقوبات التي ترافقها مواجهات عسكرية ضد العدوان الإيراني وقصف جوي لو كشف أن طهران على طريق امتلاك القنبلة النووية. والسؤال هو، هل ترامب مستعد لهذا الثمن أو خليفته يريد هذا النهج؟
وتقول إن باراك أوباما الذي تعب من المنطقة والمصادر التي تستهلكها أمريكا فيها، حاول الخروج منها والتركيز على آسيا من خلال معاهدة مع إيران. ولكن ترامب يريد الخروج منها بطريقة بطلجية. وسيفشل هو الآخر لأن إستراتيجية الخروج تعتمد على بقاء القوات الأمريكية في الشرق الأوسط كوسيلة ردع. وربما كان اغتيال سليماني الدرامي مجرد مقامرة حققت أهدافها على المدى القصير ولكنه لم يحل مشكلة أمريكا مع إيران.
حلفاء خائفون
وفي الوقت الذي رضي فيه ترامب من الغنيمة يشعر حلفاؤه في المنطقة بالخوف من إمكانية تخليه عنهم. وكان واضحا في تصريحاته عندما أكد أن أمريكا لم تعد بحاجة لنفط الشرق الأوسط، فلديها ما يكفيها من نفط. ويعتقد جوزيف سوليفان في “فورين بوليسي” (7/1/2020) أن ترامب قرر تجميد سليماني لأن الظروف كانت مواتية له ولم تتوفر لجورج دبليو بوش الذي رفض طلبا إسرائيليا بتجميده عام 2008 في دمشق، فيما تردد أوباما بعمل كهذا خشية أن تؤدي المواجهة مع إيران لصدمة عالمية في النفط، وزيادة أسعاره بطريقة تؤثر على أمريكا. ويرى سوليفان أن ارتفاع أسعار النفط لم يعيد يخيف الإدارة الأمريكية كما أخاف الرؤساء السابقين، بل وتراه في صالحها وليس في صالح إيران التي تعاني من عقوبات اقتصادية وتضخم وانهيار لاقتصادها ونقص في العملة الأجنبية وعزلة عن سوق النفط العالمي. وبالمحصلة فهي بدون خيارات للإضرار بأمن أمريكا. وفي هذا السياق فالأمن الاقتصادي هو بالنسبة لترامب أمن قومي. وهو ما يفسر إقدامه على قتل سليماني. لكن التجارب تشير إلى أن الرئيس غير واضح في مواقفه وهو ما أخاف حلفاءه في المنطقة التي بدت تشعر بالعصبية كما أشار تقرير لصحيفة “الغارديان” (9/1/2020) حيث سارعت السعودية بإرسال نائب وزير الدفاع خالد بن سلمان إلى واشنطن ومعه رسالة لترامب يدعوه للتهدئة. فيما عبرت دولة الإمارات والتي كانت مع الرياض رأس الحربة في دفع واشنطن للمواجهة مع إيران، عن المخاوف نفسها. ففي أي مواجهة أمريكية-إيرانية فستكون دبي أول هدف للصواريخ الإيرانية. ولهذا حاولت السعودية التخفيف من حدة المواجهة في ملفات مثل اليمن والنظر في تخفيف التوتر مع قطر والتواصل وإن بشكل غير مباشر مع طهران، مع أن حليفتها الإماراتية تواصلت مع طهران بعد هجمات الصيف الماضي. وقال المحللون إن الرسالة التي جاءت من الرياض كانت بالتأكيد تحمل مخاوف من تحول أراضيها إلى جبهة في أي هجوم ضد إيران رغم معرفتها أنها لن تتجنب التورط في النزاع حال حدوثه.
وفي الأيام التي تبعت اغتيال قائد فيلق القدس، حذر عدد من القادة الإيرانيين دول الخليج من التبعات لو تحولت فيها أراضيها لنقطة انطلاق للغارات ضد طهران. وكشف عن حالة الضعف السعودية للصواريخ الإيرانية في أيلول (سبتمبر) بعد الضربة التي اتهمت إيران بتنفيذها ضد منشآت النفط في مدينة إبقيق وخريص، شرق السعودية.
وعبرت الرياض عن دهشتها من عدم الرد الأمريكي على الهجمات رغم ما توصلت إليه المخابرات الأمريكية من تورط إيران بها ووصف البيت الأبيض لها بأنها إعلان عن الحرب.
رأس الحية
وفي السياق قالت مجلة “بوليتكو” (9/1/2020) إن حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط يقومون عمليا بمحاولة الاختباء. وبدأت إسرائيل ودول الخليج بالتعبير عن آراء غير آرائها السابقة التي دعت فيها إلى الصدام. ودعا المسؤولون إلى “ضبط النفس” لتجنب “تفاقم الوضع”. وشددت الإمارات العربية المتحدة على “أهمية الحوار والحلول السياسية”. وحتى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي مدح علنا قرار ترامب اغتيال سليماني قال لمستشاريه سرا إن القتل “ليس شأنا إسرائيليا بل أمريكيا.. لم نكن متورطين فيه ولا يجب أن نجر إليه”. وقالت المجلة إن هذا الحذر من شركاء أمريكا لافت للنظر إذا ما اعتبرنا دعواتهم السابقة لأمريكا “لقطع رأس الحية” في طهران، بما في ذلك عن طريق قصف المواقع النووية الإيرانية. وتعكس التهديدات الإيرانية الاعتراف بأن حربا قد تقلب اقتصادياتهم رأسا على عقب وتهدد حكوماتهم. ولكنها أيضا تعكس الشك من أن ترامب الذي اشتهر عنه التقلب سيقف إلى جانبهم على المدى الطويل.