الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في لا جدوى الجدل حول عرسال

في لا جدوى الجدل حول عرسال

11.08.2014
عمر قدور



المستقبل
الاحد 10/8/2014
لا تضيف مواجهات عرسال الأخيرة جديداً إلى الجدل السوري اللبناني، حول أصل المشكلة. فحزب الله وحلفاؤه يجيّرون دخول المتطرفين إلى عرسال لإثبات صواب موقفهم عندما انخرط الحزب في الحرب على السوريين، كخطوة استباقية تحت زعم حماية لبنان منهم. مناهضو الحزب سيرون في التطورات الأخيرة، إثباتاً لمقولة أن تدخل الحزب في سوريا سيستدرج المواجهة إلى لبنان، وأن دعوة زعيمه المتقاتلين اللبنانيين وسواهم للقائه في الميدان السوري فحسب، ستنعكس أزمة في الداخل اللبناني عاجلاً أم آجلاً. إذاً، لا جديد حقاً سوى اتفاق الطرفين اللبنانيين على دعم الجيش في تصديه للإرهابيين، فيما يعكس تخوفاً عاماً لديهما؛ الحزب وحلفاؤه لا يريدان رؤية ذرائعهما تنهار مع وصول المواجهة إلى الداخل، ولا يريدان رؤية ميليشيات الحزب تنكفئ لمواصلة الحرب على الأراضي اللبنانية. أما خصوم الحزب، وإن استخدموا التطورات الأخيرة لإثبات صواب رؤيتهم، فهم غير متلهفين إلى تحقق تلك الرؤية لأن الإنذار بالخراب يختلف كلياً عن القبول أو الترحيب به.
كما هو واضح حتى الآن، ينال الجيش دعماً تاماً من النخبة السياسية اللبنانية كافة، التحفظات، التي يبديها البعض، هي لاحقة على الدعم غير المشروط، وهي أشبه بالتمنيات لا غير. التمني على الجيش بأن يمارس سلطته في ضبط الحدود على الجانبين هو أشبه بطلب المستحيل، لأنه يقتضي استدارة كاملة من قيادة الجيش عن الدور الذي ترسخ منذ قيادة إميل لحود له، وأيضاً عن الثلاثية الشهيرة "الشعب والجيش والمقاومة"، التي أرساها في البيانات الوزارية المتعاقبة نظام الوصاية، ولم يجرِ إلغاؤها إلا عندما تم التغاضي عملياً عن خروج المقاومة على دورها المفترض ومشاركتها في احتلال البلد الجار. أصحاب التمنيات يسجلون مواقفهم للذكرى، يتساوى في ذلك بعض السياسيين مع بعض المثقفين، وانطلاقاً من إدراكهم لهذا الواقع ليس ثمة حراك سياسي مواكب لعرسال، باستثناء التأكيد على دعم الجيش في مهمته وتحميله مسؤولية فشل سياسي، بلغ طوراً جديداً مع المستجدات السورية.
التركيز على فشل الحزب في معركته السورية، وعلى مشهد التوابيت العائدة، لم يثبت جدواه أيضاً، فلا القاعدة الشعبية للحزب تخلت عنه، ولا مقتل المئات على الأقل من كوادره وعناصره أنهك قيادة الحزب، أو ردعها عن توسيع حربها وصولاً إلى العراق. انتظار فشل الحزب، من دون فعالية سياسية مقابلة، لن يؤدي على الأرجح إلا لتحميل لبنان تبعات الفشل، وحيث أن الأحداث الميدانية في سوريا لم تمنح ميليشياته عودة ظافرة، فليس متوقعاً من المهزومين أن يقبلوا بتلقي هزيمة تالية على أرضهم. لقد كان سلوك العسكر العرب المهزومين دائماً على هذا المنوال، كلما تعرضوا لخسارة أمام عدو خارجي عوضوا عنها بإحكام الخناق على الداخل. لذا لا يمكننا تجاهل القول بأن الانتصار في عرسال مطلب حيوي للحزب، للتعويض عن الانتكاسات الأخيرة في معارك القلمون، بعد اعتقاده بأن اقتحام القصير ويبرود ورنكوس سينهي المعركة فيها. في فقه الهزيمة هذا، لا نعلم متى تُقلب إلى انتصارات إلهية، ومتى يعود العسكر ليقبضوا التعويض عن خساراتهم في الميدان، لكن التجربة تدلل على أن السياسيين الذين ينتظرون فشلهم وحسب، هم أول من يتعرض للانقضاض على أيديهم. لقد خبر أولئك السياسيون تجربة النصر الإلهي، وربما تكون أشبه بالنزهة قياساً إلى تجربة الهزيمة.
المبالغة في إظهار الدعم للجيش من قبل فئات وقفت دائماً على الضد من مشروع الدولة، لا يمكن أن يكون بريئاً البتة. وإذا أتى الآن كاستعاضة من الفريق نفسه عن عرقلته انتخاب الرئيس فهو يفضح أصلاً محاولة الالتفاف على مدنية الدولة، من خلال إبراز العسكرة كوجه وحيد ضامن للبلد. أيضاً، هذا ليس بجديد في المنطقة العربية، إذ طالما استُخدمت الجيوش من قبل الفئات التي تريد الانقلاب على مفهوم الدولة، وطالما كان الاستخدام تكتيكياً ومرحلياً، بغية الهيمنة على الجيش، ومن ثم إقصائه كمؤسسة، أي إلحاقه بالفئة المهيمنة كلياً. في المزاد الانفعالي تجاه وطنية الجيش، دائماً هناك مشاريع تريد سوقه في وجهة سياسية معينة، ودائماً ثمة من يلتحقون بالمزاد راضين أو مكرهين، ليكتشفوا فيما بعد أن المزاد أقيم على حسابهم وعلى حساب مصالحهم. فالجيوش ليست نزيهة أو محايدة أو وطنية بطبعها. هي كذلك عندما تكون ضمن نسق وطني عام مُتفق عليه، وعندما تتقيد بدورها الدستوري بحذافيره. وإذا كان البعض في المنطقة وخارجها يروّج للجيش كمدماك أول لتأسيس الدولة العتيدة، فإن التجارب السابقة ليست مشجعة إطلاقاً، لأن أي بناء للجيش لا يتزامن مع بناء مؤسسات الدولة ينذر بالقضاء على الأخيرة.
هي حالة شاذة، وربما غير مسبوقة، أن يجهد الجيش اللبناني من أجل حماية الحدود، بينما يعمل فصيل لبناني كقوة احتلال في بلد مجاور. وما لم يتجرأ اللبنانيون على تسمية الوقائع بمسمياتها، لن يكون ثمة سبيل للمضي في حل المعضلة الأصل؛ الإشارات الدبلوماسية إلى انخراط الحزب في سوريا غير كافية أيضاً لملامسة واقع النزوح السوري إلى لبنان. النزوح السوري ينقسم بين حالتين، الأولى إنسانية تحكمها القوانين الدولية المتعلقة بالكوارث والحروب، والثانية منهما تمثلها عرسال على أفضل وجه بسبب انتماء أغلب النازحين في عرسال إلى منطقة القلمون التي استهدفها الحزب بحرب شاملة. نازحو عرسال تنطبق عليهم المعاهدات المتعلقة بالحرب، والتي تُلزم قوات الاحتلال بواجبات محددة تجاه مدنيي البلد الواقع تحت احتلالها. نازحو القصير ويبرود ورنكوس وغيرهم من بلدات القلمون هم ضحايا احتلال الحزب لبلداتهم، واستهداف مخيماتهم بالقصف، أو منعهم من المغادرة في أثناء المعركة ضد الإرهابيين، ينضويان تحت جرائم الحرب المنصوص عليها في القانون الدولي، لأن معاهدات جنيف تُلزم الطرف المحتل بحماية المدنيين الواقعين تحت سلطته. مسؤولية الحزب عن نازحي عرسال مختلفة عن مسؤولية "الدولة" اللبنانية، ما دام الفصل قائماً بين الاثنين، فالجيش بدوره الوطني مسؤول عن إعادة الأمن، بينما الحزب مسؤول أولاً كقوة احتلال. وكما نعلم، فإن ارتكاب جرائم الحرب من قبل تنظيمات لا دول لا يعفي الأولى من تبعاتها. وعلى الأصعدة السياسية والأمنية والحقوقية لا يعفي الدول الراعية لتلك التنظيمات من مسؤولياتها.
إن لم يكن الآن فمتى يقرر من يقفون في صف الدولة اللبنانية الانحياز إليها؟ انتظار متغيرات دولية تؤذن بحل القضية السورية، لن يكون أفضل نتيجة من انتظارها سابقاً لإيجاد حل للصراعات اللبنانية، وفي كل الأحوال، عندما يأتي موسم الحل فهو يراعي القوى الفاعلة لا تلك المستكينة والمنتظرة. الجدل الحالي حول عرسال لا يتعدى السجال اللفظي، ما دامت الأفضلية فيه للذين يغلّبون المعركة على أسبابها الحقيقية، وعلى ذيولها المحتملة. لا يخفى هنا وجود معركتين في عرسال، الأولى يخوضها الجيش ضد الإرهابيين، والثانية يقودها حزب الله وحلفاؤه ضد النازحين والمتعاطفين معهم. تصوير المعركتين على أنهما واحدة لا يعني سوى أنها مسؤولية مشتركة لجميع القوى اللبنانية، وتبنياً ضمنياً لحرب الحزب في سوريا. التلطي وراء الحرب على الإرهاب لتنفيذ مآرب أخرى لم ينفع النظام السوري بكل ترسانته، بل تبين أنه استدرج الإرهاب فعلاً، وأن يوضع اللبنانيون "على غرار السوريين" تحت طائلة القول "إما أنا أو الإرهاب" فهذا اشتراط امتُحن جيداً في سوريا، ولم ينجح رغم سيل من الدماء؛ تكراره في لبنان لن يكون إلا تعميماً للفشل وللكارثة.