الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في ما خصّ الأكراد والهوية الوطنية

في ما خصّ الأكراد والهوية الوطنية

03.07.2014
أكرم البني



الحياة
الاربعاء 2/7/2014
"يجب اغتنام الفرصة لإعلان استقلال كردستان"، هي عبارة تكررت أخيراً على لسان غير قيادي كردي عراقي، والفرصة هي التطورات المتسارعة التي تجرى في سورية والعراق وتنذر بتمدد تنظيم "دولة الإسلام في العراق والشام" وما يشكله ذلك من خطر على الدول والأوطان وعلى حقوق الناس عموماً وعلى التنوع الإثني والديني في كلا البلدين.
الصراع بين الهوية الوطنية والحلم القومي صراع قديم عند الأكراد بعدما وزعتهم اتفاقية سايكس-بيكو في أربع دول، لكنها لم تنجح في دمجهم وطمس ثقافتهم وهويتهم، وإذا بقي الحراك الكردي في إيران محدوداً وتمكنت الثورة الاسلامية من محاصرته وتطويعه متوسلة الأيديولوجية الدينية والقمع المعمم، فإن الأكراد في سورية مالوا نحو تغليب وطنيتهم ربما بسبب كتلتهم المحدودة وتوزعهم على مساحات جغرافية متقطعة، لتنحو غالبية تعبيراتهم السياسية نحو تبني شعارات تؤكد الانتماء الوطني وتطالب إلى جانب رفع الظلم والتمييز عنهم، بإرساء دولة المواطنة والديموقراطية في البلاد.
في حين تميز النضال الكردي في تركيا والعراق بالحيوية القومية وخاض في البلدين كفاحاً مسلحاً ضد السلطة المركزية، قبل أن يصل حزب العمال الكردستاني إلى اتفاق مع حكومة أنقرة أعلن بموجبه وقف العنف والتزامه بالدولة التركية كخيار إستراتيجي مع المطالبة بحكم ذاتي يضمن للكرد حقوقهم وخصوصيتهم الثقافية، بينما لم يتمكن أكراد العراق من السيطرة على أوضاعهم، إلا بعد تحرير الكويت وجعل منطقة الشمال ذات الغالبية الكردية تحت رعاية دولية، لكن وعلى رغم معاناتهم التاريخية المريرة، بدا خيارهم الوطني واضحاً، واتضح أكثر بعد إسقاط صدام حسين وإرساء دعائم دستور لعراق اتحادي فيدرالي كشكل من إشكال العلاقة الآمنة مع المركز، وزاد الأمر وضوحاً الاعتراف بمؤسساتهم البرلمانية والحكومية ومنحهم موقع رئاسة الجمهورية واعتبار لغتهم لغة رسمية ثانية في البلاد.
وعلى رغم تقدم الحضور الوطني لأكراد العراق واحترام حقوقهم وهويتهم، بقيت المسألة القومية الهاجس السياسي الأول عند بعضهم، إما بسبب نظام المحاصصة البغيض في العراق الذي يشوّه الدولة الديموقراطية ومفهوم المواطنة ويؤجج الخلافات ما دون الوطنية، وإما بسبب خلل في الممارسة السياسية، تجلى بتناوب حكومات عراقية فاسدة سعت إلى الاستئثار بكل شيء على حساب بناء وطن يوفر فرص متكافئة لكل أبنائه.
والحال، فإن تقدم الخيار القومي الكردي اليوم هو أمر مفسر كمحاولة لتحرير الذات من أعباء الالتزامات الوطنية طالما لا تساعد في معالجة الأزمات المتفاقمة وفي تحقيق الشراكة الندية وتكامل المصالح، وطالما أن وعد التغيير الديموقراطي الذي حمله الربيع العربي يعاني عثرات كبيرة ويشوّه بفعل العنف السلطوي المنفلت والتقدم الحثيث لتيارات إسلاموية لا علاقة لها بشعارات الحرية وحقوق الانسان، وطالما أن هناك قوى قومية في الطرف الآخر لا تزال تعيش أوهام الماضي وتستمر في تعميم أفكار شوفينية تطعن بحق الأقليات القومية وتعتبر ما هو قائم من تنوع وتعددية نتاجاً طارئاً صنعه الاستعمار ومصالح القوى المتصارعة على المنطقة، ما يفسر سرعة استغلال هذه القوى لتعبير "اغتنام الفرصة" لاستحضار تحذيرات سبق وأطلقتها في وجه الديموقراطيين ودعاة رد المظالم للأكراد وضمان حقوقهم القومية، جوهرها التشكيك بالادعاءات الوطنية للأكراد وبأن لا أمان لهم ويظهرون غير ما يبطنون، ويترقبون الوقت المناسب، بدليل اللحظة الراهنة، لتنفيذ مشروعهم القومي من دون اعتبار للمصلحة الجامعة ولمستقبل شركائهم في الوطن!
وفي المقابل، ظهرت أصوات كردية مضيئة في هذا الليل الحالك، رفضت ما يسمى "اغتنام الفرصة" لفرض المشروع القومي ودانت محاولات بعض المتطرفين الكرد توظيف القهر التاريخي الذي عانوا منه لتسويغ هذه النقلة، بعضها لدوافع براغماتية، إما لأنه يدرك حدود الضوء الأخضر لتغيير خرائط المنطقة وأن المجتمع الدولي والبلدان التي تضم كتلاً كردية لن ترضى بهذا الخيار وستسعى الى إجهاضة كما حصل في استقلالات سابقة وتكبد الأكراد تضحيات مجانية كما قد تنتزع منهم ما قد حققوه حتى الآن، وإما لأنه نظر بموضوعية الى النتائج التي خلفها الاستقلال الكردي النسبي في دولة صغيرة والسقف المحدود في النماء او التطور الذي لا يمكنها تجاوزه، مستنداً إلى استحالة بقاء الكيانات الصغيرة مستقلة في ظل ما يشهده العالم من صراعات بين التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى، وبعضها الآخر لأسباب مبدئيه، إما لأنه يرفض مقايضة الديموقراطية بأي مشروع قومي متخوفاً من وأد المسار الديموقراطي تحت ادعاءات شوفينية وتحويل الفكرة القومية الكردية كما حصل مع العرب إلى أيديولوجية استبدادية مغلقة ومفرغة من أي بعد إنساني أو حضاري، وإما مستقوياً بمراجعة نقدية لانتكاسات الماضي خلصت إلى خطورة فرض كيان سياسي كردي مستقل بالقوة ودعت الى اعتماد الممر الديموقراطي طريقاً آمنة لضمان حقوق الأكراد وحل المشكلات القومية وتعقيداتها، مطالبة القوى الكردية الحية بألا تؤمن بهذا الخيار فحسب، وإنما أن تتقدم أيضاً قوى العمل الديموقراطي في كل بلد من البلدان التي تتقاسم كردستان التاريخية من أجل نصرة البناء الوطني المستند إلى معايير المواطنة وحقوق الانسان والذي يصون حقوق جميع القوميات والإثنيات ويضمن المساواة بينها في نظر المجتمع والقانون، بما في ذلك المشاركة المتكافئة في إدارة السلطة والدولة، وتقرير مصيرها بالوسائل السلمية والأساليب الديموقراطية.
وأخيراً ثمة أصوات كردية تعيب سياسياً وأخلاقياً فكرة الخلاص الذاتي وترك العرب في محنتهم، لأنها تعتبر الأكراد معنيين أكثر من غيرهم بمواجهة قوى التسلط والعنف والإرهاب أياً كان نوعها، ولأنها تأبى أن تكون حافزاً مشجعاً على التقسيم، ولأنها تجد هذا الوقت العصيب بالذات هو الوقت الأنسب لإثبات وطنية الأكراد وأنهم عامل توحيد لا تفرقة، وأمينون لواجبهم بأن يكابدوا كديموقراطيين لإنقاذ مجتمعاتهم وبنائها حرة وكريمة.