الرئيسة \  تقارير  \  في نقد الثروة الفاحشة

في نقد الثروة الفاحشة

23.12.2021
ريتشارد د. وولف


ريتشارد د. وولف* – (الاقتصاد للجميع) 17/12/2021
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الغد الاردنية
الاربعاء 22/12/2021
أينما ومتى حصّل الأثرياء ثراءً فاحشاً، فإنهم حموا دائمًا ثرواتهم والامتيازات التي تأتي معها من الغالبية من الناس غير الأثرياء الذين يعملون لديهم ومن حولهم. وعلى مدى التاريخ، فعل ذلك الأباطرة، والملوك، والقياصرة، وكذلك أسياد مزارع العبيد الضخمة، وأصحاب الإقطاعيات الكبيرة، وكبار المساهمين وكبار المديرين التنفيذيين للشركات الرأسمالية العملاقة، جزئيًا باستخدام القوة الغاشمة، أو من خلال ممارسة النفوذ والرشوة. كما استخدموا كلهم أيضًا الإقناع الأيديولوجي، وإنما ليس في أي وقت أكثر من الرأسماليين اليوم. وعلى الرغم من أن “سلاح النقد لا يمكن أبدًا أن يحل محل نقد السلاح”، وفقًا لكارل ماركس، فإن هناك حاجة ماسة إلى نقد الثروة الفاحشة للرأسمالية اليوم ومبرراتها الأيديولوجية.
تجادل إحدى محاولات التبرير بأن الثروة الفاحشة هي مكافأة المجتمع لأولئك الأشخاص الذين يقدمون مساهمات حاسمة للرفاهة الاجتماعية والتقدم. وعلى سبيل المثال، أسهم الملياردير إيلون ماسك في صناعة السيارة الكهربائية، كما قد يجادل البعض؛ وقدم الملياردير جيف بيزوس فكرة طلب البضائع وتسليمها بسرعة فائقة. لكن سيارة ماسك الكهربائية كانت خطوة متأخرة في مسار تطور طويل للكهرباء، والبطاريات والسيارات. وقد أسست لهذا التطور العديد من المساهمات التي قدمها العديد من الناس على طول الطريق. وكانت مساهمة ماسك ستصبح مستحيلة من دون -وهي بالتالي تعتمد على- كل تلك المساهمات السابقة. وتسلتزم مكافأة المساهمات والمساهمين بشكل عادل مكافأتهم جميعًا، وليس ماسك بشكل حصري. ومن الواضح أن مكافأته وحده هي شيء غير عادل وغير مبرر.
يشبه هذا إلى حد كبير قرية تكافح للنجاة من فيضان نهر قريب وشيك. وتتجمع مجموعة فرعية من القرويين لحفر الرمال وإخراجها، والحصول على أكياس وتعبئتها بالرمل، ثم تمريرها إلى الأمام، من شخص لآخر، حتى يتمكن آخر شخص يقف بالقرب من النهر، ويدعى إيلون، مثلاً، من تكديس الأكياس على ضفة النهر. وتجمع القرية الممتنة مبلغ 10.000 دولار لمكافأة المسؤولين عن هذه النتيجة السعيدة: لا فيضان. ويتم تسليم الشيك بقيمة 10.000 دولار لإيلون. ويشكل منح المكافأة بهذه الطريقة -بدلاً من تقاسم المكافأة بين جميع أولئك الذين تعاونوا لتحقيق النتيجة- حافزًا أكبر لوضع شخص واحد في مكان معين بدلاً من العمل إلى جانب جميع الزملاء القرويين الذين أسهموا في تحقيق النتيجة.
في الواقع، يغلب أن تضرب المكافأة بهذه الطريقة الآخرين كعامل مثبط للمساهمة في العمل من أماكن أخرى. وإذا لم يملأوا تلك المواقع الأخرى (ويخسرون بالتالي فرصة نيل مكافأة)، فسوف يخسر إيلون مكافأته هو أيضًا. وإذا تنافس المساهمون في جهود مكافحة الفيضان على موقع إيلون، بما يؤدي إلى تعطيل أو تأخير الجهد، فإن هذه المنافسة نفسها تعرض خطر تمكين الفيضان، وبالتالي حرمان الجميع من أي مكافأة. وسوف تفعل القرية أفضل لو أنها وزعت مبلغ الـ10.000 دولار الذي تم جمعه لمكافأة جميع القرويين الذين تعاونوا في منع الفيضان.
إلى جانب كونها غير عادلة ومنطوية على المخاطرة، فإن الثروة الفاحشة كحافز ليست ضرورية على الإطلاق.
في العديد من مجالات النشاط البشري، يقدِّر المخترعون والمبدعون بانتظام ويرحبون بالمكافآت التي ليست ثروة فاحشة، ولكنها مع ذلك أكثر من كافية. وقد أسهم الموسيقيون، والفنانون، والمزارعون، وعمال المصانع، والمدرسون وغيرهم الكثير بحلول مبتكرة لمشاكل المجتمع الكبيرة والصغيرة. وغالبًا ما كان هؤلاء الأشخاص مدفوعين بالأوسمة الاجتماعية، والتصفيق والاستحسان، والمكافآت والجوائز ذات الحجم المتواضع. وعلى سبيل المثال، طور جون مينارد كينز، الاقتصادي، أولاً: نقدًا لعدم استقرار رأسمالية القطاع الخاص؛ وثانياً: السياسات النقدية والمالية لمواجهة انعدام الاستقرار ذاك، والتي انتشرت على نطاق واسع منذ الثلاثينيات. وكانت مساهمة عمله في المجتمع هائلة، إلا أن مكافآته المالية كانت متواضعة جدًا مقارنة بالمليارات التي جمعها رواد الأعمال مثل ماسك وبيزوس. وجائزة نوبل (التي تمنح حوالي مليون دولار لكل من الفائزين بها) هي مكافأة عظيمة كما يتخيلها معظم الاقتصاديين. وبالمثل، فإن لودفيغ فان بيتهوفن، وولفغانغ أماديوس موزارت، ولويس باستير، وألبرت أينشتاين، وعدد آخر لا يحصى من المساهمين الرئيسيين الآخرين في الحياة الحديثة، لم يكونوا مدفوعين بشكل خاص بأي احتمال لتحقيق ثروة فاحشة، ولم يحصلوا عليها خلال حياتهم.
وليس الأمر فقط أن المكافآت الضخمة غير ضرورية للاختراع والابتكار والتقدم، وإنما كانت الاختراعات أيضًا في الغالب سبباً عرَضياً لتراكم الثروة الفاحشة. إنها الرأسمالية هي التي تمكن من تحقيق هذه الثروة الآن (كما فعل الإقطاع والعبودية في الماضي). وغالبًا ما يتم تجاهل المخترع، أو خداعه، أو تركه بعيدًا خلف الركب من قبل شخص مختلف مدفوع بِـ -ويسعى إلى- جمع ثروة فاحشة. ويقوم هذا الشخص بتعبئة مؤسسة رأسمالية لاحتكار إنتاج أو استخدام ما تم اختراعه حديثًا لأسباب أخرى. وتتضافر الصلات الجيدة، وثروة الأسرة، والنفوذ السياسي، والرشوة، والفساد وعوامل أخرى لا حصر لها لتمكين الأشخاص بخلاف المخترعين من “الاستفادة” من اختراع شخص آخر. في الرأسمالية، يوفر احتكار الاختراع فرصًا أفضل بما لا يُقاس لتكديس الثروة الفاحشة من تلك التي وفرها -أو يوفرها- ابتكار شيء على الإطلاق.
أدى دمج المتاجر الصغيرة المتنوعة في متجر واحد كبير بـ”أقسام” (إضافة إلى كتالوجات للطلبات بالبريد) لتشمل عددًا متزايدًا من السلع، إلى تمكين وفورات الحجم.(1) وهذا النموذج بدوره مكّن سلاسل المتاجر الكبرى الأميركية، مثل “سيرز” من خفض الأسعار بشكل مربح وتجميع الثروة الفاحشة. وعملت عائلة والتون على تحقيق وفورات الحجم بشكل أكبر من خلال استيراد منتجات الصين التي تُصنع بأجور منخفضة لتشغيل سلسلة أكبر من المتاجر الكبرى (وول مارت). وأخذ بيزوس هذا النموذج خطوة أخرى إلى الأمام من خلال “أمازون” التي أصبحت “متجرًا متعدد الأقسام” لكل شيء تقريبًا، والذي يقوم بإيصال المنتجات إلى العملاء في أي مكان تقريبًا بسرعة بالطلب من خلال الإنترنت. وهكذا تم جمع المليارات عبر سلسلة من الخطوات الصغيرة. ولم تكن أي من هذه الأفكار أو المفاهيم اختراعات جديدة رائعة في الحقيقة. كانت جميعها احتكارات في السوق لمدة طويلة بما يكفي لجمع المليارات قبل أن تنقل الخطوة التالية تلك الفرصة إلى آخرين.
كما يصطدم تكديس الثروة الفاحشة بالديمقراطية أيضاً. هناك سبب وراء ترافق الدعوات إلى المساواة في كثير من الأحيان بالدعوات إلى الديمقراطية. وسرعان ما يكتشف أفراد المجتمعات التي تتسامح مع التفاوتات الهائلة في الثروة والدخل أن الأثرياء يستخدمون ثرواتهم لمنع أي ديمقراطية أو استغلالها والتلاعب بها أو تدميرها. وعلى سبيل المثال، أدرك هؤلاء الأفراد دائمًا أن الاقتراع العام -أو حتى حق الاقتراع واسع النطاق- يهدد بأن تصوت الأغلبية غير الثرية لصالح إنهاء اللامساواة في ثروة المجتمع. ولذلك، يمنع الأغنياء الديمقراطية، ويحولون دون أن يكون للأشكال المختلفة من الديمقراطية أي محتوى حقيقي، أو أنهم يقومون لدى التعرض للضغط بتخريب تلك الأشكال. وبعد استكمال الزيادات الهائلة في تفاوت الثروة في الولايات المتحدة، يشجع الأثرياء مع ذلك مطالب الحزب الجمهوري المناهضة للديمقراطية ومناوراته الانتخابية، ويتسامحون مع قيود الحزب على التصويت الجماهيري، ويحاربون بشكل خاص حتى ضد اقتراحات الأبعاد الضريبية التصاعيدية التقدمية بعض الشيء التي يطرحها الرئيس جو بايدن ضمن مشروع “إعادة البناء بشكل أفضل”.
يقرر إيلون ماسك، وجيف بيزوس، وغيرهم من أصحاب المليارات الأميركيين وحدهم ومن دون محاسبة كيفية إنفاق مئات المليارات من الدولارات. وبذلك، تجلب قرارات بضع مئات من الأشخاص التنمية الاقتصادية إلى بعض المناطق والصناعات والمؤسسات، بينما تؤدي إلى التدهور الاقتصادي لمناطق أخرى. ويتم استبعاد ملايين الأشخاص المتأثرين بقرارات الإنفاق هذه من المشاركة في اتخاذها. ويفتقر هؤلاء الملايين من الناس إلى القوة الاقتصادية والاجتماعية التي تمارسها الأقليات الصغيرة غير الخاضعة للمساءلة صاحبة الثراء الفاحش. وهذا نقيض الديمقراطية.
كما استخدم أصحاب الثراء الفاحش السلطة التي يجنونها من ثروتهم ليقوضوا بنجاح الضرائب التي تهدد ثروتهم الفاحشة أو انتقالها في السلالة من خلال الميراث. وأحد الأمثلة العديدة الممكنة هو ضريبة العقارات الفيدرالية في الولايات المتحدة. من العام 1942 إلى العام 1976، كانت العقارات التي يزيد سعرها على 60 ألف دولار خاضعة لضريبة العقارات بنسبة 77 في المائة. وفي الوقت الحاضر، تُعفى العقارات التي تصل قيمتها إلى 23.4 مليون دولار للمتزوجين من ضريبة العقارات بينما يتم فرض ضريبة على العقارات أعلاه بمعدل 40 في المائة. وهكذا دفع الأثرياء الفاحشون الاقتصاد والمجتمع في الولايات المتحدة بعيدًا عن أي شيء يشبه ولو من بعيد “تكافؤ الفرص”. اليوم، يتمتع أبناء الأشخاص فاحشي الثراء بمزايا لا تعد ولا تحصى مقارنة بجميع الأولاد الآخرين. وقد تم تأمين هذه المزايا من خلال تغيير آبائهم الأثرياء لنظام الضرائب العقارية في البلاد. ومن المرجح أن يستخدم أولادهم ثرواتهم الموروثة لإدامة النظام.
يُظهر الأثرياء الفاحشون من خلال ممتلكاتهم العقارية -مثل دونالد ترامب- صفة أخرى مذهلة معادية للديمقراطية. إن ثروتهم مستمدة من تركيبة سكانية: أين يختار العدد المتزايد من السكان العيش والعمل. وإذا اختار هؤلاء السكان العيش والعمل في مكان آخر، فيمكن لأصحاب العقارات في هذا الموقع أن يصبحوا أغنياء بشكل فاحش. إنهم لم يفعلوا شيئًا للأرض التي يمتلكونها ليصبحوا أثرياء. لقد فعلت قرارات تحديد مواقع الأشخاص الآخرين ذلك في سياق إضفاء الطابع المؤسسي على الملكية والأسواق الخاصة بالرأسمالية الأميركية. ووفقًا لاستطلاعات الرأي الأميركية الأخيرة، فإن التفاوت الفاحش في الثروة الناتج غير مرغوب فيه لدى الأغلبيات الكبيرة. وهذا التناقض -بين ما تقدمه الرأسمالية وما يريده معظم الناس- يسود الرأسمالية الأميركية هذه الأيام أكثر من أي وقت مضى.
أخيرًا، تتفاخر الثروة الفاحشة بتجاهلها للقانون. من “أوراق بنما” إلى “أوراق باندورا”، من بين مصادر أخرى، نعلم أن الأثرياء الفاحشين ينشطون أيضًا في الملاذات الضريبية، حيث يخبئون ثرواتهم من السلطات الضريبية والمحاكم القانونية والرأي العام والأزواج. ولا يقتصر عمل ثرواتهم على شراء القوانين واللوائح التي تمكّن من التهرب الضريبي القانوني؛ إنها تشتري التسامح العالمي مع الملاذات الضريبية (الموجودة بشكل متزايد داخل الولايات المتحدة نفسها، في ولايات مثل ساوث داكوتا ونيفادا وديلاوير). وهكذا، في كل مكان تقريبًا في العالم الرأسمالي، يدفع غير الأثرياء قدراً أكبر من الضرائب ويعانون من عجز في الخدمة العامة بسبب التهرب الضريبي لفاحشي الثراء.
يجب أن تكافح الثروة المتطرفة غير العادلة وغير الضرورية -وهي تفعل- جاهدة لتأمين دعم الرأسمالية العالمية وقوتها. وقد أدى النجاح الكبير الذي حققته هذه الوسائل لتأمين الثروة الآن إلى زيادة الانتقاد الذي يوجه إلى الرأسمالية. وينتج النظام الحالي تفاوتًا اقتصاديًا شديدًا لدرجة أنه يتفاعل مرة أخرى بحيث يعرض للخطر كلاً من الثروة الفاحشة والنظام نفسه. وبرؤيتهما ذلك، سوف يبتسم جورج فيلهلم فريدريش هيغل وكارل ماركس.
 
Richard Wolff: مؤلف كتاب “الرأسمالية تواجه المتاعب” وكتاب “أزمة الرأسمالية تتعمق”، وهو مؤسس “الديمقراطية قيد العمل” Democract at work.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: A Critique of Obscene Wealth. وهو من إنتاج Economy for All، وهو مشروع تابع لمعهد الإعلام المستقل.
هامش المترجم:
(1) في الاقتصاد الجزئي، وفورات الحجم هي مزايا التكلفة التي تحصل عليها الشركات بسبب حجم عملها (يقاس عادة بحجم الإنتاج المحقق)، فتتناقص تكلفة إنتاج وحدة إضافية من السلعة كلما زاد حجم الإنتاج. تنطبق وفورات الحجم على مجموعة متنوعة من المواقف التنظيمية والتجارية وعلى مستويات مختلفة -على مستوى الإنتاج مثلًا أو المعمل أو على مستوى المؤسسة بأكملها. عندما يبدأ متوسط التكاليف في الانخفاض مع زيادة الإنتاج، تحدث وفورات الحجم. لبعض وفورات الحجم، مثل التكلفة الرأسمالية لمرافق التصنيع والخسائر بالاحتكاك في النقل والمعدات الصناعية، أساسٌ مادي أو هندسي. وثمة مصدر آخر لاقتصاديات الحجم هو إمكانية شراء المدخلات بتكلفة أقل لكل وحدة إذا اشتريناها بكميات كبيرة.