الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في فهم الإسلام وتنزيله على الواقع سوريًّا.. دروسٌ من ماليزيا (2)

في فهم الإسلام وتنزيله على الواقع سوريًّا.. دروسٌ من ماليزيا (2)

11.08.2014
د. وائل مرزا



الشرق القطرية
الاحد 10/8/2014
لا يوجد في الثقافة الإسلامية الماليزية ذلك الرعبُ السائدُ عند الآخرين من الخلط بين الإبداع والابتداع، ومدخلُ (سدّ الذرائع) ليس أبداً المدخل الرئيسي للتفكير في شؤون الحياة، والقيودُ والشروطُ والموانعُ ليست هي الأصل، وإنما الأصلُ الإباحة.
لهذا كله، لا تتمحور حياة المسلمين الماليزيين إلى حدّ الهوس حول التفكير بالمُحرَّمات، ولا يجعلون هذا التفكير المدخل الأساسي لعلاقتهم بالإسلام، ولا مقياساً لتديُّنهم، ولا تنشغل عقولهم وكتبهم ونشاطاتهم الثقافية والاجتماعية بالوهم الذي يوحي بأن فعاليات الحياة البشرية المختلفة إنما هي مصائدُ شيطانيةُ كبرى، لا يمكن للإنسان أن يتعايش معها إلا بوجود واستمرار أقصى مشاعر التوجُّس والحذر والشك والخوف والريبة، في النفس وفي الآخرين، وفي متغيرات الواقع وأحداثه.
كثيرةٌ هي مظاهر التجديد والابتكار في الحياة الماليزية، ولا يمكن حصرها في مثل هذا المقام، ويمكن لكل مهتم أن يقرأ عنها، لأن الكثير مكتوب عن التجربة الماليزية بمختلف اللغات، تكفينا هنا الإشارة إلى أن التجربة بأسرها تبدو معجونة بقيم الإبداع والابتكار والانفتاح والمرونة والوعي والشجاعة.
ومن جوانب المصالحة مع الحياة في الفهم الماليزي للإسلام، المصالحةُ مع الابتسام والبهجة والفرح، ففي مقابل ثقافة العبوس والتجهم والحزن السائدة في كثير من بلاد المسلمين، سريعاً ما يكتشف المرء أن أهل ماليزيا عرفوا منذ زمن أنه لا توجد خصومةٌ بين الإسلام وبين الفرح والابتسام، فالبسمة الماليزية الجميلة تطالعك في كل مكان وتدعوك للحياة. والسماحة السائدة بين الناس تجعلك تدرك دون كثيرِ عَناء أن مثل هؤلاء البشر يستحقون موقعاً مميزاً في الحياة المعاصرة، لأنهم يعرفون معنى هذه الحياة (الحاضرة) وقيمتها، ويؤكدون على ضرورة العيش فيها، وليس في التاريخ أو في عالم الغيب، أكثرَ من معرفتهم بأي شيءٍ آخر وتأكيدهم عليه.
وفي إطار مصالحة الثقافة الإسلامية مع الحياة تأتي المصالحة الواضحة في ماليزيا مع المرأة، فالمرأة الماليزية ليست الحاضر الغائب في المجتمع الماليزي، وإنما هي حاضرةٌ بقوة في كل مجال من مجالات الحياة، فمنذ بداية التجربة المعاصرة، حرصت الحكومات الماليزية المتعاقبة، ولا تزال، على وضع قوانين تحفظ حقوق المرأة وتخلق الظروف المناسبة لتطوير مكانتها ودورها في الحياة بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ وصريح.
لم تقف ثقافة المجتمع الماليزي عند تلك النقطة التي يقفُ عندها البعض، حين يرفعون الشعارات بأنه لا ضرورة لصياغة مثل تلك القوانين الخاصة، بدعوى أن وجود الإسلام في حد ذاته يكفي لضمان حقوق المرأة. يُؤمن أهل ماليزيا بصواب النظرية، لكنهم يعرفون أن ذلك لا يعني بالضرورة صواب التطبيق الاجتماعي العفوي لها. هنا أيضا تنتفي التناقضات الموهومة على أكثر من مستوى، ففتحُ الباب للمرأة للمشاركة في بناء المجتمع وإعمار الحياة لا يعني بالضرورة فقدانها لخصوصيتها وهويتها والتزامها، وحركةُ المرأة في المجتمع ليست سبباً لشيوع الفساد والرذيلة، ومساهمة المرأة في العمل العام لا يجب أن تكون لزاماً سبباً لتفكك الأسرة وضياعها. ولكن، مرةً أخرى، في وجود الابتكار والشمولية في التخطيط الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي..
والحقيقة أن من أهم ما يميز التجربة الماليزية تلك الشمولية في التخطيط، فنحن هنا بإزاء محاولةٍ جدية لبناء منظومة متكاملة من السياسات في كل مجال، وهذا في غاية الحساسية، لأن التركيز على جانبٍ واحد من جوانب البناء والتطوير والتغيير في أي مجتمع أو دولة لا يحل المشكلات القائمة راهناً، ولا يزرع بذور نهضة مستقبلية حقيقية.
أدركت السلطة في ماليزيا هذا مبكراً، أدركت أنها لا تستطيع أن تطلب من المواطنين التعايش والانفتاح على الآخر ما لم يتم زرع بذور تلك الممارسة ثقافياً في مناهج التعليم والإعلام، وما لم يتم وضع سياسات تسمح بالتعايش وتُشجع عليه عملياً.
وأدركت أنها لا تستطيع أن تتوقع للمرأة دوراً فعالاً في المجتمع يحقق الإيجابيات ويتجنب السلبيات، ما لم تقم أيضا بتخطيطٍ ثقافي واجتماعي وقانوني يساعد على ذلك.
وأدركت أنها لا تستطيع أن تطلب من أفراد المجتمع استعمال المواصلات العامة، ما لم تؤمّن لهم وسائل نقل عام نظيفة وسريعة ورخيصة، وقُل مثلَ هذا في كثير من حقول الحياة.
باختصار، أدركت السلطة أنها لا تستطيع أن تطلب من المجتمع التضحية في بعض المجالات، وهي تضحيةٌ مطلوبة في مراحل بناء الدول والحضارات، ما لم يشعر ذلك المجتمع بأن تلك السلطة جديةٌ في رؤيتها وفي ممارساتها وفي سياساتها. وبأنها تقوم بكل ذلك على أسس من العدل والمساواة، ووفقَ مفاهيم التخطيط العلمي ومقاييسه على جميع المستويات.
لا يعني هذا أن ماليزيا أصبحت (المدينة الفاضلة) وأنها حلَّت كل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تواجهها، فهي لا تزال تعيش الكثير من التحديات في كل تلك المجالات. لكن هذه النقطة تُظهرُ، بذاتِها، وجهاً آخر من وجوه المصالحة مع الحياة، تحاول ماليزيا الاحتفاظ به يتمثل في المصالحة مع عملية المراجعات والنقد والذاتي.
لهذا، يبدو طبيعياً استمرارُ التقدم في كثيرٍ من الحقول، رغم التحديات والمشاكل، ففي دراسةٍ دولية لتصنيف العواصم الرئيسية في جميع أنحاء العالم من حيث مدى النجاح المتمثل في كونها مصدراً لجذب الزائرين وإمكانية العيش والنجاح فيها هذا العام، جاءت كوالالمبور، العاصمة الماليزية، في المركز الـ 17 من أصل 30 مدينة رئيسية في العالم، لتنافس مدناً مثل لندن وباريس وشيكاغو ونيويورك وسيدني.
ولهذا أيضاً، لا يبدو غريباً أن تُسجل ماليزيا أداء قوياً للتجارة خلال النصف الأول من عام 2014م مع ارتفاع حجمها بنسبة 9.9%، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وأن تُسجل الصادرات الماليزية نمواً بمقدار 12.5% هذه السنة.
ولهذا، كانت ماليزيا الدولة التي اقترحت إنشاء صندوق للابتكار والإبداع في اجتماعات البنك الإسلامي للتنمية منذ أسابيع، وذلك لمعالجة قضية ارتفاع معدل بطالة الشباب في الدول الأعضاء بشكل إستراتيجي.
ما علاقة الاقتصاد والتجارة والأرقام والمدن والشباب والبطالة والتخطيط والقوانين والابتسام والمرأة بفهم الإسلام وتنزيله على الواقع؟ وما علاقة الموضوع كله بسوريا وثورتها ابتداءً؟
نعم.. هناك من سيفكر بهذه الأسئلة وهناك من سيطرحها بكل جدﱢية، وهو لا يشعر فقط أنه يعيشُ الإسلام بكل معانيه، بل إنه يُمثلهُ ويُمثلُ المسلمين في كل زمانٍ ومكان.