الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في "واقعية" الحديث عن الحرب العالمية الثالثة

في "واقعية" الحديث عن الحرب العالمية الثالثة

23.11.2015
د. وائل مرزا



الشرق القطرية
الاحد 22/11/2015
يربحُ الفُرسان المنتصرون أولاً، ثم يذهبون إلى الحرب، أما المحاربون المهزومون فيذهبون إلى الحرب باحثين عن نصرٍ فيها". هذا ما قاله، منذ قرون، سن تسو Sun Tzu، كاتب (فن الحرب)، الإستراتيجي والجنرال الأكثر شُهرةً في تاريخ الصين. من الواضح أن قادة النظام العالمي الراهن يفتقدون معاني الفروسية، ولا يقرأون التاريخ.
يبدو هذا طبيعياً في زمنٍ تتزايد فيه "خفة الوزن" في مواقع تلك القيادة.. ولكن ماذا عن المستشارين والمؤرخين ومراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية المنتشرة كالفطر، في أوروبا وأمريكا تحديداً؟ ماذا يفعل السادة (الخبراء) في هذه المراكز؟ وبماذا ينصحون من يُفترضُ فيهم أن يكونوا قادةً يصنعون واقع البشرية ومستقبلها؟ بنظرةٍ فاحصة إلى قرارات وممارسات الأكثر تأثيراً من قادة القارتين القديمة والجديدة، يبدو الجواب بائساً ومُفارقاً لكل مقتضيات المنهج العلمي في التفكير، ولكل قوانين الاجتماع البشري.
وبنظرةٍ أخرى إلى التاريخ، يبدو هؤلاء في مقعد القيادة لرحلةٍ بشريةٍ راهنة أكثر بؤساً، ليس من المبالغة القول بأنها تأخذ الجميع إلى صدامٍ كبير، ثمة احتمالٌ بأن يتبلور في حربٍ عالمية ثالثة. نشبت الحرب الأولى قبل مائة عامٍ وعام بالضبط من هذه الأيام. بدأت كرد فعل على عمليةٍ إرهابية، اغتال جافريلو برينسيب، طالبٌ صربي، الأرشيدوق فرانز فرديناند، ولي عهد إمبراطورية النمسا-هنجاريا. كان القاتل ينتمي لمنظمةٍ سرية اسمها (اليد السوداء)، تم إنشاؤها من قبل ضباط في الجيش الصربي!.
كان هناك توترٌ سياسي وأمني قبل العملية، بين حكومة الإمبراطورية وبين الحكومة الصربية، لخلافات توسعية، وكانت الأولى تتوقُ لمهاجمة مملكة صربيا، لكنها افتقدت ذريعةً للقيام بهذا الأمر. لم يُسمح للتاريخ أن يقول كلمته الواضحة في خفايا الموضوع، لكن المؤكد، من الأحداث والوقائع، أن الحكومة والإمبراطور نفسه، فرانز جوزيف، لم يُظهرا حِداداً حقيقياً على ولي العهد المغدور. ومن المعروف أن الخلافات كانت كبيرةً جداً بين الأخير وبين الإمبراطور قبل عملية الاغتيال..
بغض النظر. قررت حكومة النمسا-هنغاريا شن حربٍ، كانت تعتقد أنها ستكون سريعةً وقصيرة، على المملكة الصربية. لكن الأمور خرجت عن السيطرة تدريجياً، وشهدت البشرية حرباً عالميةً طاحنةً استمرت أربعة أعوام قُتل فيها أكثر من 9 ملايين إنسان (مقاتل، وليس هناك إحصاء دقيق للمدنيين الذين قُتلوا)، وجُرحَ فيها أكثر من 20 مليونا، ينتمون لأكثر من 25 دولة في العالم! سُميت الحرب، وقتها، (الحرب العظمى) و(الحرب العالمية) دون كلمة (الأولى)، لأن البشرية ظنت أنها تعلمت الدرس. أما الأمريكان فسموها للمفارقة (الحرب الأوروبية).
قرر المنتصرون، بريطانيا وفرنسا وروسيا، معاقبة المهزومين بقسوة، فجاءت معاهدة فرساي التي قررت أن ألمانيا والنمسا-هنغاريا مسؤولة عن الحرب فتم وضع عقوبات اقتصادية وعسكرية شديدة عليها، إضافةً إلى تفكيك أراضيها والحُكم عليها بالعُزلة والحصار، إلى غير ذلك من العقوبات. حصلَ هذا عام 1918م، ولم تمض عشرون عاماً إلا وكانت الحرب العالمية الثانية قد اشتعلت. لماذا اشتعلت الحرب هذه المرة؟ تقرأ في موسوعة التاريخ البريطاني للأطفال السؤال، وتقرأ بعده جواباً (مُختزَلاً) يحصره في ظهور هتلر والنازية. لا يتحدث الجواب عن الملابسات السياسية والاجتماعية والثقافية المُعقدة التي عاشتها أوروبا بشكلٍ عام، وألمانيا تحديداً، على مدى عقدين بعد الحرب العالمية الأولى، والتي خلقتها معاهدة فرساي، وأدت إلى صعود هتلر الصاروخي إلى السلطة. وثمة خوفٌ عامٌ، في الدوائر الثقافية والتعليمية والإعلامية والبحثية الأوروبية والأمريكية، من الحديث في الموضوع لئلا يُفهم على أن هناك أي تبرير لأفعال هتلر، خاصة فيما يخص جرائمه في حق اليهود. لهذا، تقفز التحليلات على الخطر الذي يُشكِّلهُ التعامل مع أي ظاهرةٍ بشرية من خلال وسائل الحصار والعنف والعَزل و(إعلان الحرب) وما إليها، دون النظر في جذور الظاهرة وأسبابها العميقة. كما يحصلُ تماماً هذه الأيام مع ظاهرة (الإرهاب) الذي لا يمكن تبريره ولا التعاطف معه بأي شكلٍ من الأشكال. دون أن يتضاربَ هذا مع ضرورة إدانة كل أشكاله وأصحابه، ولا محاولة فهم أسبابه الأساسية والتعامل معها لمعالجتها بشكلٍ نهائي. وفي إطار قراءة التاريخ، يتم التغافل عن دور الحرب الأهلية الاسبانية، التي اشتعلت عام 1936م، في تحضير أجواء الحرب العالمية الثانية. ولا ينتبه الكثيرون أن تلك الحرب كانت، عملياً، صراعاً إقليمياً ودولياً على النفوذ. والأهم، يجري الحديثُ اليوم عن الوضع في سوريا كأول حربٍ أهلية يوجد فيها مقاتلون خارجيون، ولا تُذكر حقيقة أن أكثر من 32 ألف (متطوع) من أكثر من 55 دولة كانوا مشاركين في الحرب الأهلية الإسبانية! أصبح ونستون تشرشل رئيساً لحكومة بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية. لكن فهم موقفه من الحرب قد يكون أسهل من رسالةٍ، تذكرها السجلات التاريخية، أرسلها خلال الحرب العالمية الأولى، إلى ابنة صديقه، وناقده، السياسي ديفيد لويد جورج، يقول فيها: "أعتقد أن لعنةً يجب أن تُصيبني، لأنني في حالة حبٍ مع الحرب. أنا أعلمُ أنها تمزق حياة الآلاف كل دقيقة. رغم هذا، لا أستطيع التعامل مع حقيقة أنني أستمتعُ بكل ثانيةٍ فيها".
بهذه الطريقة في التفكير، وفي غياب قراءة التاريخ وأخلاق الفروسية لدى قادةٍ يتحكمون بمصير العالم اليوم، لن يكون السؤال: "هل نرى حرباً عالميةً ثالثة؟"، أو: "هل نرى حرباً أوروبية عالمثالثية جديدة؟"... بل سيكون: "متى ستحصل؟".