الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في (احتكار) الإسلام وتمثيله

في (احتكار) الإسلام وتمثيله

18.11.2013
د. وائل مرزا


المدينة
الاحد 17/11/2013
في (احتكار) الإسلام وتمثيلهفي يومٍ مضى من تاريخنا، وتحت فصلٍ بعنوان (في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد)، كتب الإمام ابن قيم الجوزية، تلميذ ابن تيمية، في أحد كتبه الكلام التالي: "هذا فصلٌ عظيم النفع جداً، وَقعَ بسبب الجهل به غلطٌ عظيمٌ على الشريعة، أوجبَ من الحَرَج والمشقّة وتكليف مالاسبيل إليه ما يُعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به. فإن الشريعة مبناها وأساسُها على الحِكم ومصالحِ العباد في المعاش والمعاد. وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها. فكل مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل ..... فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمتهُ بين خلقه، وظلّهُ في أرضه، وحكمته الدّالةُ عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتمّ دلالةٍ وأصدقها".
وكتب في مقامٍ آخر قائلاً: "ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرفِهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضلﱠوأضلﱠ، وكانت جنايتهُ على الدين أعظم من جناية من طببَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتابٍ من كتب الطب على أبدانهم . بل هذا المفتي الجاهل أضر ماعلى أديان الناس وأبدانهم والله المستعان".
ثم أردف قائلاً في موقعٍ ثالث: "فمهما تجدد العُرفُ فاعتبره، ومهما سقط فألغِهِ، ولا تجمُد على المنقول في الكتب طول عمرك. بل إذا جاءك رجلٌ من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجرِهِ على عرف بلدك، وسَلهُ عن عُرف بلده فأجرِهِ عليه وأفتِهِ به، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك. قالوا: فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلالٌ في الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين".
هل قرأ بعض من يدﱠعون تمثيل الإسلام في سوريا اليوم هذا الكلام؟
من الواضح أن في الأمر مصيبةً إذا كانوا لم يقرؤوه، وأن المصيبة أعظمُ إذا كانوا قد قرؤوه.
كيف يمكن لأي فئةٍ أن تدﱠعيَ بأن فهمها للإسلام هو الفهم الأمثل له؟ ثم أن تَقسر الناس على اتباع هذا الفهم؟
إن كلام ابن قيم الجوزية، الذى يُعتبر جوهرياً في كيفية فهم الإسلام وتطبيقه في الواقع، يتضاربُ كلياً مع مثل ذلك الادعاء الذي يقتضي عملياً احتكار فهم الإسلام واحتكار تمثيله.
صحيحٌ أن الانتماء للإسلام، والغيرة عليه وعلى أبنائه، والانشغال بحاضره ومستقبله، حقٌ لكل من ينتمي إليه بشكلٍ من الأشكال. بل ربما يمكن القول أن ذلك الأمر هو واجبٌ عليه.
ولكن من الضرورة بمكان التعامل مع هذه المسألة بنوع من الحساسية والحذر والانتباه. خاصةً عندما تأخذ حركة الإنسان ونشاطاته أبعاداً جماعيةً تخرج عن إطار دائرته الفردية، وخاصةً عندما يصبح لتلك الحركة وذلك النشاط تَبِعاتٌ جماعيّة، ويترتّبُ عليها نتائج تؤثر في مصائر مجموعات أخرى من البشر صغيرةً كانت أو كبيرة، من المسلمين أو من غير المسلمين.
إن الذي يغارُ بحق على مصير الإسلام والمسلمين يجب أن يكون أكثر حذراً في حركته ونشاطه ومواقفه وتصرفاته من غيره من الناس، لأنه يعلم أن كل تلك الحركة وكل تلك المواقف تنبني على اجتهادٍ يمكن له أن يكون اجتهاداً خاطئاً في نهاية المطاف.
وبالتالي فإن الآثار التي ستترتّب على ذلك الاجتهاد يمكن لها دوماً أن تكون سلبيةً بشكلٍ كبير.
وكلّما كان حجم القضية التي يتعلق بها ذلك الاجتهاد كبيرةً وحساسةً ومتشابكة الأطراف، كان الخطأ فيه سبباً للكوارث والمصائب، وسبيلاً لحصول مصائب وأهوال تلحق بالعباد والبلاد، وبشكلٍ لا ينفع في تبريره إطلاقاً صدقُ النيات وطيبةُ القلب وإخلاصُ السرائر. لأن الاجتهاد الذي تنبع عنه مثل هذه الكوارث يكون دائماً اجتهاداً في غير محلّه، ولا يمتلك صاحبه الحدّ الأدنى من نصاب الاجتهاد في قضيةٍ بهذا الحجم وهذا التعقيد.
من هنا، فسيكون صاحب هذا الاجتهاد الذي لم يمتلك شروطَ القيام به موزوراً غير مأجور. وهذا تصحيحٌ لفهمٍ مُتعسف للحديث الذي يتحدث عن أجرِ من يجتهد فيُخطئ. لأن الأصل في أي اجتهادٍ يتمثل في امتلاك شروطه ومقدماته، وهذه لاتقتصر على النية بأي حالٍ من الأحوال.
وإن من أغرب الأمور وأكثرها مدعاةً للتساؤل والمراجعة، تلك السهولة البالغة التي يجدها البعض في ادّعاء الاجتهاد بقضايا كبرى تمسُّ بتأثيراتها المتشعّبة كثيراً من الدول والشعوب، مثلما هو الحال في بعض ما يجري في سوريا، وأن يحصل هذا بدعوى الإخلاص والتفاني والغيرة على مصلحة الدين والإنسان.
وإن المصيبة الأخرى الموازية تتمثل في قبول بعض من يُسمّون أنفسهم علماء ومشايخ ومثقفين ونُشطاء بتلك الدعاوى وإقرارهم لها، ولو بالسكوت عنها، بل وفي التماس المزيد من الأعذار والتبريرات لمن يقوم بتلك الأعمال، ثم التغاضي عن النتائج الكارثية التي تنتج عنها، والقولُ ببساطة أن هذه النتائج إنما تدخل في باب الفتنة والتمحيص والابتلاء والقَدَر المقدور. بدلاً من التصدي مبكراً وبشكلٍ حازم وحاسم، وبكل الوسائل والأساليب، لكلّ من يُدخلُ سوريا وثورتها وحاضرها ومُستقبلها في هذه الأنفاق الخطيرة والمجهولة.
من هنا، يُصبح مطلوباً بإلحاح تحرير مسألة فهم الإسلام وحصر تمثيله في جماعةٍ معينة، تنطلق من ظروفها الخاصة وأحوالها المُعيّنة، وتتحرك بناءً على حدود علمها التي كثيراً ما تكون في غاية القصور، لتقوم بأفعال وتصرفات، ولتتصدى لقرارات ومخططات، تتجاوز بكثيرٍ قدرتها على الإحاطة وينتج عنها مستتبعاتٌ تؤثر على الآخرين.
هذا شيءٌ من جديةٍ يقتضيها المقامُ في سوريا الثورة، وضرورةٌ لوقف استخفاف كبير بالإسلام لايليق به، ولم يعد ممكناً السكوت عليه بأي حالٍ من الأحوال.