الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الانسحاب الروسي في ذكرى انطلاق الثورة السورية

الانسحاب الروسي في ذكرى انطلاق الثورة السورية

19.03.2016
بكر صدقي


القدس العربي
الخميس 17-3-2016
من المرجح أن فلاديمير بوتين لم يشأ هذه المصادفة المشار إليها في العنوان أعلاه، بل أراد لقراره بسحب "القسم الرئيسي" من قواته من سوريا أن يتزامن مع موعد استئناف مفاوضات جنيف المعلن عنها سابقاً، ليكون لهذا الانسحاب مفعوله على مناخ المفاوضات. وربما العكس هو الصحيح، أعني أن موعد استئناف المفاوضات الذي تأجل، أكثر من مرة في غضون الأسبوع السابق عليه، ربما تحدد بناءً على تقدم الاستعدادات الروسية لسحب قواتها قبل الإعلان الرسمي عن ذلك.
هذه مجرد تكهنات ستفصل فيها التطورات اللاحقة بدءًا من المسار الذي ستمضي فيه مفاوضات جنيف، وانتهاءً بالسلوك الذي سيتبعه النظام الكيماوي وحلفاؤه في الميدان. لكن المؤكد أن التوافق الأمريكي ـ الروسي حول تسوية سياسية في سوريا يبدو، في ظل تطورات الأشهر الثلاثة الماضية، أكثر جدية وثباتاً من أغلب التوقعات. وإذا كان صمود الهدنة التي تم فرضها على الأطراف المؤشر الأول لجدية التوافق المذكور، فقرار الانسحاب الروسي المفاجئ يشكل مؤشراً أقوى، على رغم ادعاء واشنطن بعدم علمها المسبق بهذا القرار. أما نظام دمشق وحلفاؤه المصدومون بالقرار الروسي، كما يظهر بوضوح في تعاطي إعلام الممانعة معه، فقد حرص الروس على تأكيد أن الرئيس بوتين اتخذ القرار وحده، بخلاف ما زعمه بيان النظام عن "تنسيق" بشأنه بين موسكو ودمشق.
هذه التفاصيل ترجح التحليلات القائلة بأن قرار الانسحاب العسكري الروسي، في جانب منه على الأقل، يستهدف الضغط على النظام ليدخل في المسار التفاوضي بجدية. وكان ممثل روسيا في مجلس الأمن فيتالي تشوركين واضحاً في رده على سفاح دمشق الذي كان قد خرج عن النص الروسي في خطاب له أمام مجلس نقابة المحامين منتصف شباط /فبرايرالماضي، حيث عبر عن رغبته في استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، ما يعني عملياً مواصلة الحرب إلى ما لا نهاية.
فنصحه تشوركين بـ"الخروج من الأزمة بكرامة" من خلال الالتزام بعملية التسوية السياسية التي تقودها موسكو وواشنطن وفقاً لخارطة الطريق المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن 2254. هذا بخلاف التحليلات القائلة بأثر تصريحات وليد المعلم النارية، قبل يومين، على قرار موسكو الذي لا يمكن أن يكون ابن لحظته. بل على العكس، ربما كانت التصريحات النارية المذكورة هي ردة فعل غاضبة من نظام دمشق على ضغوط روسية متواصلة لإرغامه على الالتزام بالهدنة، أولاً، وبالدخول الجدي في التسوية المقررة أممياً، من جهة ثانية.
بررت موسكو قرارها بالقول إن القوات الروسية قد أنجزت المهمات الموكلة إليها. فهل تحققت كل الأهداف المعلنة من التدخل حقاً؟ لا شك أن موسكو فرضت، بتدخلها، أمراً واقعاً على العالم وهو أن روسيا أصبحت صاحبة الكلمة الأولى في تحديد مصير النظام، وشريكة للولايات المتحدة في أي تسوية سياسية للصراع السوري. إضافة إلى تمكينها للنظام من استعادة بعض المناطق الحيوية ضمن حدود ما يسمى "سوريا المفيدة"، بما يدخله في التسوية السياسية من موقع قوي لم يكن يملكه قبل التدخل الروسي في 30 أيلول/سبتمبر 2015. كما كرست روسيا وجودها العسكري الدائم في القاعدة الجوية في اللاذقية والقاعدة البحرية في طرطوس، مهما كانت نتيجة العملية السياسية في جنيف. وتبقى الاتفاقية الموقعة مع النظام التي منحت روسيا حق التدخل العسكري بلا حدود زمنية، حتى بعد الانسحاب الجزئي الذي بدأ فور صدور القرار.
بالمقابل ثمة أهداف، قطع القرار الروسي الطريق أمام استكمال تحقيقها، أهمها استعادة حلب وريفها الشمالي وصولاً إلى الحدود مع تركيا، وما يعنيه ذلك من إخراج تركيا نهائياً من الصراع السوري. ومنها أيضاً السيطرة على الغوطة الشرقية، حيث لم تتوقف محاولات قوات النظام وحلفائه من الميليشيات الشيعية التقدم نحوها على رغم الهدنة المعلنة. كذا فيما يتعلق باستعادة مدينة جسر الشغور ذات الأهمية الاسترتيجية في إشرافها على مناطق القاعدة الاجتماعية الصلبة للنظام على الشريط الساحلي.
القطع الذي شكله الانسحاب الروسي أمام تحقيق هذه الأهداف الحيوية، حتى من وجهة نظر المصالح الروسية وحدها، يشير إلى عنصر آخر في التفاهمات الروسية ـ الأمريكية: الحفاظ على توازن قوى دقيق لا يسمح بنصر صريح للنظام ولا للمعارضة، بما يخدم التصور الأمريكي – الروسي للتسوية السياسية: أي مشاركة في الحكم بين النظام والمعارضة للتفرغ لـ"محاربة الإرهاب". وقد اكتشف الروسي، في غضون الأشهر الخمسة والنصف التي انخرط فيها في الصراع بصورة مباشرة، أن النظام أكثر ضعفاً مما كان يتوقع، وغير قادر على استثمار قصف الطيران الروسي في تحقيق مكاسب كبيرة على الأرض، وهو يتصرف، فوق ذلك، بعنجهية وتصلب سياسيين لا يتناسبان مع هشاشته، و"يبيع من كيس روسيا" وكأن القوات الروسية خادمة في إمرته، في حين أن العلاقة بينهما معكوسة تماماً.
لسان حال الروسي الذي تضغط عليه تكاليف الحرب الباهظة (مليونان ونصف من الدولارات كل يوم) في ظل أزمة موارد كبيرة، يقول للنظام: لن أقوم بالعمل كله نيابة عنك. عليك الالتزام بالتسوية السياسية أو تواجه مصيرك وحيداً.
دي ميستورا بدوره هدد بالعودة إلى رعاة التسوية السياسية بعد خروجه من اللقاء مع وفد النظام. ما يعني دلالة إضافية على جدية الإرادة الدولية في إرغام النظام على التسوية السياسية التي يرفضها، في حقيقة الأمر، جملة وتفصيلاً.
ترى هل ما زال النظام يملك من الوسائل ما يبعده عن تجرع كأس السم؟ وإلى أي حد يمكن لموسكو أن تمضي في محاولة إخضاعه؟
قد يأتينا الجواب على السؤال الأول من داعش، بعدما أعلنت جبهة النصرة عن قسطها من "المهمة" بنيتها في شن حملة عسكرية كبيرة ضد النظام في غضون 48 ساعة. أما السؤال الثاني فالأيام القادمة ستجيب عليه.
٭ كاتب سوري