الرئيسة \  واحة اللقاء  \  السباق نحو جرابلس

السباق نحو جرابلس

27.08.2016
بكر صدقي


القدس العربي
الخميس 25/8/2016
إذا صح ما نقله الصحافي في جريدة "هرييت" عبد القادر سلفي المقرب من دوائر القرار في أنقرة، تكون الحملة التركية على جرابلس قد بدأت بعد تأخير قسري. يقول سلفي إن تفاصيل الخطة العسكرية وضعت أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في قمة العشرين التي انعقدت في أنطاليا في 15 تشرين الثاني 2015. ونالت الخطة موافقة بوتين الذي قال، وفقاً للرواية ذاتها، إن روسيا ستعترض لفظياً، بشيء من الصخب، على دخول قوات تركية داخل الأراضي السورية، لكنها لن تفعل شيئاً ضد التدخل التركي.
ثم جاء حادث إسقاط طائرة السوخوي، فانتهى كل شيء.
يتضح الآن أن الرئيس التركي قد حصل، أثناء زيارته لبطرسبورغ في التاسع من الشهر الجاري، على الموافقة الروسية، مجدداً، على دخول جرابلس. وكأن العملية الإرهابية التي ضربت عرساً كردياً في غازي عنتاب، قبل أيام، وذهب ضحيتها 54 من القتلى، قد قامت بوظيفتها في تسويغ العملية التركية بصورة مباشرة. كما تزامن بدء العملية مع زيارة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى أنقرة، مع العلم أن طيران التحالف الدولي (الأمريكي) يشارك في ضرب جرابلس مع الطيران والمدفعية التركيين.
الواقع أن الرائز التركي وراء عملية جرابلس إنما هو الخط الأحمر التركي المعروف بصدد منع وصل الكانتونات الكردية في شمال سوريا للحيلولة دون إقامة كيان كردي متصل جغرافياً، أكثر من كونه محاربة داعش. وهي سياسة تركية معلنة، على أي حال، وأحد أركان التقارب التركي ـ الروسي الجديد بشأن سوريا، كما أعلنه رئيس الوزراء بن علي يلدرم. "الحفاظ على وحدة الكيان السوري" هو الترجمة الراهنة للسياسة الخارجية التركية الأكثر تقليدية، ويراهن الأتراك على أن يشكل هذا الشعار مفتاحاً لنوع من تطبيع العلاقة مع النظام الكيماوي، لا نعرف مداه بعد. فرئيس الوزراء يلدرم يهيئ الرأي العام، عبر تصريحاته، بصورة متدرجة، نحو إنهاء خصومة تركيا مع النظام. وآخرها الحديث عن أن الأخير هو لاعب لا يمكن تجاهله في المشكلة السورية، والقبول ببقائه في المرحلة الانتقالية التي لا يعرف مداها.
وربما يمكن قراءة الصراع المسلح بين قوات النظام وقوات حماية الشعب والأساييش في الحسكة في إطار ملاقاة النظام لليد التركية الممدودة. فعلى رغم أنها ليست المرة الأولى في سياق الاحتكاكات العنيفة بين الحليفين، لكنها المرة الأولى التي يستخدم فيها النظام سلاح الطيران في ضرب القوات الكردية. وقد اختبر النظام، بهذا القصف الجوي، حدود الرد الأمريكي في منطقة هي جزء من ميدان عمليات التحالف الدولي لمحاربة داعش. وكان هذا الرد باهتاً، مما قد يعني موازنة أمريكية بين متطلبات تحالفها مع القوات الكردية والامتعاض التركي من هذا التحالف.
تتضمن الخطة التركية الأصلية للحملة على جرابلس، وفقاً لتسريبات "سلفي" دائماً، إقامة منطقة آمنة بحماية تركية وموافقة أمريكية. فهل سنشهد إقامة المنطقة الآمنة التي طالما طالب بها الأتراك منذ العام 2012، وقوبل طلبهم برفض أمريكي؟ مع العلم أن منع طيران النظام من استهداف قوات "المعارضة المعتدلة" هو جزء من الخطة الأمريكية للتنسيق مع روسيا في ضرب داعش وجبهة النصرة. روسيا لم توافق بعد على الاقتراح الذي قدمه جون كيري قبل أكثر من شهر. فهل فعل التقارب الروسي ـ التركي المستجد ما عجزت تركيا عن إقناع حليفها الأمريكي به طوال سنوات، وما عجز كيري عن إقناع بوتين به إلى الآن؟
صدرت أول ردة فعل من صالح مسلم، رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي، على العملية التركية في جرابلس، عبر حسابه على موقع تويتر، حيث توعد تركيا "الغارقة في المستنقع السوري" بتكبد خسائر كبيرة. من المحتمل أن الأمريكيين سيكون عليهم منع وقوع الصدام بين قوات المعارضة المدعومة من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، في سباقهما على جرابلس ما بعد داعش، بنفس الطريقة التي توسط فيها الروسي بين النظام الكيماوي والقوات الكردية في الحسكة. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الروس توسطوا بين حليفين، في حين سيكون على الأمريكيين التوسط بين عدوين. فقوات صالح مسلم التي تكبدت خسائر كبيرة في معركة منبج، كانت تأمل من حليفيها الروسي والأمريكي ترك جرابلس لها. وإذا كان الأمريكيون مرغمين على مراعاة الحساسية التركية بخصوص جرابلس والشريط الحدودي الفاصل بين كوباني وعفرين عموماً، فقد شكل التقارب الروسي ـ التركي ضربة لأحلام صالح مسلم الجامحة بشأن فرض الكيان الفيدرالي على طول الحدود مع تركيا. لكن وعيد مسلم ربما يستبطن شيئاً من هشاشة السياسة الخارجية التركية بعد التغييرات الكبيرة فيها.
ذلك أن الانعطافة التركية التي بدأت، قبل المحاولة الانقلابية الفاشلة، بتطبيع العلاقات مع كل من إسرائيل وروسيا، تسارعت بعدها بشكل مدوِّخ. إلى درجة أن كثيراً من المراقبين أخذ يتحدث عن محور روسي ـ إيراني ـ تركي في المسألة السورية، وإيراني ـ تركي في العراق البعيد عن الاهتمامات الروسية. من المحتمل أن هذه التحليلات مبالغ بها، والأصح الحديث عن توافقات محدودة في الزمان والمفردات بين جميع اللاعبين المؤثرين في المشكلة السورية، وهم على عجلة من أمرهم لتحقيق نقاط ميدانية وسياسية قبل انتقال السلطة في واشنطن مطلع العام القادم.