الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الصندوق الأسود للاختفاء القسري في سوريا

الصندوق الأسود للاختفاء القسري في سوريا

31.08.2014
عمار تباب



القدس العربي
السبت 30-8-2014
"في صندوق أسود بعيد عن متناول الجميع، ما زلت أكتنز صور أبنائي، لأحتفظ بتلك اللحظة الموقوفة عند تلك اللقطة، اللقطة التي تهمس لي دائماً بأنهم كانوا هنـــــا، ما زلت أكتنز تلك الصور في قلبي"، بهذه الكلمات تكتب الأمٌ السورية نهاية حكايات وقصص لحياة أبنائها، فقط لأن الجريمة أرادت أن تسرق نهاياتها، ولأن العالم أراد السكوت.
تتشابه الحكايات وتتشابه الأعوام وتتشابه الأيام في عمر الثورة السورية/ التي انطلقت في آذار/مارس 2011، وانطلقت معها عدادات الضحايا في سباقها الشرس لإحصاء الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، من دون أن تترك مجالاً للأيام أن تفرض نفسها، ولو كانت عالمية الانتشار كاليوم الذي نشهده والذي اختاره العالم يوما لحماية الأشخاص المختفين قسريا.
هذا السباق فقد كلا خطيه الزمنيين الضابطين له في سوريا، فحين غاب خط بدايته مع حقيقة تسلب الجريمة في سوريا يوم تسجل به ولادتها، بقي خط نهايته باهتاً، حاله حال المواقف الدولية من الثورة، التي اختزلت دولياً بمحاربة الارهاب المتمثل بما أصبح يسمى الدولة الاسلامية، حين تم اعلان الخلافة فيها، على الصورة التي كان عليها والتي وضعت الشعب السوري بين ارهابين، ووضعت المجتمع الدولي امام تحالفات جديدة، ربما يكون النظام في دمشق أحد اطرافها. فهذا النظام الذي أكدت التقارير الدولية منها والمحلية، أنه صاحب المسؤولية الكبرى عن الانتهاكات التي تشهدها الخارطة السورية، والتي كان منها جرم الاختفاء القسري، هذه الجريمة المستترة المستمرة التي غابت عن مسرحها عناصر الجريمة من جان ومجنى عليه، ولم يبق في ذلك المسرح سوى الذاكرة التي لا زالت تشهد بأنهم كانوا هنا، وإن إعراب الجرم على أنه جرم مستتر لا ينال من وجوده ولا من الأثر الذي يترتب عليه، حتى إن زالت آثاره الدالة عليه. وعلى الرغم من أن الجريمة ترافقت مع الوجود، وجود الانسانية ذاتها، إلا أن الدعوات إلى القضاء عليها رافقتهما.
وقد شهدت الانسانية تطوراً كبيراً في مجال المطالبة بحقوق الانسان، إلى درجة وصفها بالقانون، وإن غابت مؤيداته في ما خلا الاتفاقية منها، وقد انتهى المطاف بمسيرة المجتمع الدولي في مكافحته لجرم الاختفاء القسري إلى اقرار الاتفاقية الدولية لحماية جميع الاشخاص من الاختفاء القسري عام 2006، بموادها الخمس والاربعين، التي لم تكن كافية لمنع هذه الجريمة عام 2014، وما بينهما.
لقد عرفت اتفاقية الاختفاء القسري بأنها الحرمان من الحرية بأي شكل من الأشكال، على أيدي أجهزة الدولة أو ميليشيات أو أشخاص تابعة لها أو غير تابعة، الأمر الذي يعقبه رفض الاعتراف بهذا الحرمان أو إخفاء مصير المختفين، مما يحرمهم من حماية القانون. لم يكن واقع هذا النص حين اختياره لكلماته واقفاً أمام الوجه الجريح لسورية، ولكن كان أمام معالم متشابهة للجريمة، أياً كان فاعلها وأياً كان مسرحها. أما المسرح الذي اختارت الهيئة الحديث عنه فهو المسرح السوري الذي احتل النظام دور البطولة السلبية فيه، رغم تعدد ممثليه ابتداء بالأسد الأب الذي اختفى في عهده ما يزيد عن سبعة عشر ألف إنسان، خلال أحداث الثمانينات، التي تحدث عنها التقرير مشيراً إلى تقرير سابق بعنوان سنوات الخوف، الذي استُكمل جزؤه الثاني زمانياً بالتقرير الذي صدر عن الهيئة السورية للعدالة الانتقالية، التي تمثل جهازا مستقلاً من أجهزة الحكومة السورية المؤقتة، وقد أطلق على هذا التقرير عنوان الصندوق الاسود، الذي كشف في عهد الأسد الابن عن ما لا يقل عن 53522 حالة اختفاء قسري بين مفقود ومعتقل ومقتول تحت التعذيب، وقد اعتمد التقرير على أعمال التوثيق الجنائي التي تصدر لها العديد من مراكز التوثيق خلال الثورة، ومن خلال تحليل البيانات المتوفرة واسقاطها على النص القانوني والأركان التي يرسمها، تمَّ الوصول إلى الأرقام التي اعتبرتها الهيئة نتيجة لتقريرها والتي وصلت بأعلى تقديراتها إلى اثنين وستين ألفاً وسبعمئة وخمسة وعشرين مفقودا وفق تقديرات مركز توثيق الانتهاكات في سوريا للمفردات المكونة لهذا العدد من معتقلين ومفقودين وشهداء تحت التعذيب، ويمكن بحسب التقرير زيادة العدد بأحد عشر ألف حالة أخرى في ما لو تم احتساب الحالات التي أوردها تقرير سيزار المطروح سابقاً لدى الامم المتحدة، الذي وثق هذا الرقم بخمسة وخمسين ألف صورة أثبتها العالم وأثبت معها عجزه ليجعل أي معادلة تهدف لحساب أعداد الضحايا محكومة بمحصلة وحيدة تساوي الصفر، وتفرض على الحل نتيجة تجعله مستحيلاً في غياب الإرادة لتحقيق هذا الحل.
إلا أننا في حرب الأرقام التي تصبغ الجميع بقسوة مشاعرها لدرجة يتحول فيها الانسان إلى رقم في معادلاتها العقيمة، نشعر بأننا دخلنا في دوامة الجريمة وأصبحنا أحد أطرافها، فعلى الرغم من أن جرم الاختفاء القسري وفق ميثاق روما، الذي يمثل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والنص المقابل له في اتفاقيات جنيف عام 1949، يمثل جريمة ضد الانسانية، سنداً للنهج والعموم الذي تمارس في ظله، إلا أن جريمة ضد الإنسانية مازالت عاجزة عن تحريك الإنسانية التي اختارت السكوت لضرورات سياسية فرضت علينا أن ننسى الإنسان الذي لابد لنا أن نعيد له اعتباره. فبين السياسة والحرب نسينا الإنسان وآن الأوان لنعيد للإنسان اعتباره.
٭ رئيس ملف الاختفاء القسري في هيئة العدالة الانتقالية السورية