الرئيسة \  واحة اللقاء  \  القصة الأولى: "الثائرة الشقراء"… من معتقلات النظام إلى معتقلات الثوار

القصة الأولى: "الثائرة الشقراء"… من معتقلات النظام إلى معتقلات الثوار

16.08.2014
ياسمين البنشي



القدس العربي
الجمعة 15/8/2014
تركيا ـ "القدس العربي" تنشر "القدس العربي" عشر قصص عن نساء سوريات كن معتقلات في سجون النظام السوري، وتروي هذه القصص بما فيها قصتها الناشطة ياسمين البنشي، والتي تلقب بـ"الثائرة الشقراء" وكانت معتقلة في سجون النظام وتم تحريرها في صفقة "الراهبات". البنشي توثق في روايتها التي خصت بها "القدس العربي" قضايا تعذيب واغتصاب المعتقلات في سجون النظام السوري، في ما يلي القصة الاولى:
الرابع والعشرين من نيسان/ابريل عام 2014 كان الطريق من باب المعتقل في تجربتي الثانية مع الحرية، كان قاسيا جدا، الاعتقال هو واحد في المصطلح حتى و إن ثمة اختلافا في المضمون.
إشراقة أمل بدأت على الحدود السورية التركية بعد إطلاق سراحي من قبل فصائل أحرار الشام التي قامت باعتقالي بتاريخ العاشر من نيسان/ابريل 2014 أنا وصديقاتي أثناء هروبنا من النظام عن طريق معبر باب الهوى، فعندما طلب عنصر أحرار الشام جواز السفر كنت قد نسيت بداخله ورقة كف البحث التي تعطي لأي سجينة بعد إطلاق سراحها من محكمة الإرهاب، والتي كتب فيها عبارة تسهيل مرور على الحواجز كي لا توقفني الحواجز الأمنية مرة أخرى بحكم أنني أوقفت وتمت محاكمتي، لكن العنصر فهم العبارة بشكل خاطئ وظن أنها ورقة خاصة من النظام تعطى للأشخاص المتعاونين معه، ثم قام بالاتصال بقائده الذي قدم إلينا واقتادنا بسيارته إلى المكتب الأمني لأحرار الشام.
وبعد أن شرحنا للمحقق تفاصيل الورقة وعرضت صديقاتي الورقة الخاصة بهن والتي هي بمثابة توثيق للفترة التي نعتقل بها في سجون النظام…. فهم المحقق هذه الملابسات ولكن الوقت كان قد تأخر وأغلق المعبر على الحدود التركية، فقال لنا أنه بإمكانكن البقاء هذه الليلة في استضافتنا إلى صباح الغد لتعاودن السفر إلى تركيا باكرا. أدخلونا إلى غرفة القائد العسكري وأحضروا لنا الطعام والشراب، وبعد عدة ساعات وعند العاشرة مساء قرر المحقق "رئيس المكتب الأمني" أن يجري تحقيقا بسيطا يريد أن يبرر فيه مكوثنا كنساء داخل المعبر.
كنت أولى من استدعي للتحقيق، فسألني عن عملي في الثورة وعن أسماء معروفة عملت معها، علما أنه كان من أشد المعارضين لعمل المرأة في الحراك الثوري وكان يرى أن هناك غبنا للمجاهدين بخروجي بمبادلة راهبات معلولا كوني لست محجبة. أخبرته عن بعض الأسماء التي عملت معها قبل دخولي إلى سجون النظام، وقام بالاتصال بهم ليعرف مدى صدق كلامي، فكان من بين هؤلاء أحد الأشخاص الذين تعاملت معهم ولكني كنت على خلاف معه، ولم أتوقع ردة فعله السلبية تجاهي حيث قال للمحقق انه لم يعد يعمل معي وانه سمع أن لي ملابسات بقضية خطف بالإضافة إلى قضايا الإرهاب التي وجهها لي النظام بعد أن كشف عملي في النشاط الثوري، ومن ثم اعتمد محقق أحرار الشام على ضبط الأمن العسكري الذي أرسل له ذاك الشخص صورة عنه، علما أن خمسة من الناشطين وقادة في الجيش الحر شهدوا لي بالعمل بالعمل الثوري معهم بكل إخلاص وتضحية، لكن المحقق أخذ بكلام ذلك الشخص والذي تربطهم بعض المصالح، وبناء على صورة الضبط الأمني تم الاحتفاظ بي لدواعي التحقيق وأخلي سبيل صديقاتي في صباح اليوم التالي.
شرحت للمحقق مطولا عن آلية التحقيق في الأفرع الأمنية وكيف أنه يتم تعذيبنا وتهديدنا بالاغتصاب لنبصم لاحقا على كل ما يريده الفرع الأمني ونحن مطمشي الأعين….لكن ذلك لم ينفع محقق الأحرار للعدول عن رأيه باعتقالي.
بقيت طوال ثلاثة عشر يوما قيد التحقيق، قمت باضراب عن الطعام مدة خمسة أيام، ويومين عن الماء مما استدعى إلى إحضار الطبيب لي ومحاولة إقناعي بالعدول عن الإضراب، وهنا تغيرت معاملة المحقق الفظ قليلا والذي كان يشبه إلى حد ما في طغيانه محققي أمن النظام، لكن من تبقى من عناصر في أحرار الشام كانوا يعاملونني أفضل بكثير وكأني أخت لهم، مع إحساسهم بي بأني مظلومة باعتقالي لديهم، بقيت مدة الثلاثة عشر يوما ونتيجة الضغط الإعلامي عليهم تم تحويلي إلى محكمة شرعية تحدثت لها عن ملابسات قضيتي وعن عملي في الحراك الثوري حيث أثنوا على نشاطي وقاموا بتشجيعي على عكس المحقق الذي طلبوا منه تقديم الأدلة والشهود التي لم تكن إلا عبارة عن ضبط الأمن العسكري، وبعد الانتهاء قررت المحكمة الشرعية المكونة من قاضي قضاة وقاضي مساعد ومستشار تبرئتي من التهم الموجهة إلي بوجود العديد من الصحافيين والإعلاميين الذين جاءوا لحضور الجلسة، وتم تصوير البيان الذي حرر بهذا الخصوص. وكان لخبر مقتلي الذي تناقلته وسائل الإعلام على يد أحرار الشام دور في تعجيل المحاكمة، لكن السبب الأهم كان يكمن في النزاهة وحس المسؤولية الذي اتصفت به المحكمة الشرعية والذي ظهر في اتزان القضاة وسعيهم لاحقاق الخق و إنصاف المظلومين. على عكس ما بدر من المحقق من قسوة في التعامل وتجن وهو ما اعتبره تصرفا فرديا من شخص لم يكن رايا عن خروجي بمبادلة راهبات معلولا.
 
مبادلة الراهبات
 
تلك المبادلة التي غيرت حياتي وجعلتني أخرج من ظلمات سجون النظام الأسدي بعد حوالي تسعة أشهر قضيتها ما بين الأفرع وسجن عدرا المركزي.
 
الاعتقال الأول
 
بعد أن قام فرع الأمن العسكري باعتقالي من منزلي في مدينة اللاذقية بسبب ورود اسمي في قضية خطف لأحد المدنيين، حيث أني كنت أعمل في هذه الفترة بتوثيق جرائم النظام وتوزيع المساعدات الإنسانية على النازحين وجمع المعلومات من عناصر النظام وتوصيلها إلى الجيش الحر للاستفادة منها مستغلة العلاقات الاجتماعية الكثيرة، تم التحقيق معي بشأن هذه الحادثة التي لم يكن لدي علم عنها، وبعد ساعات من التحقيق تبين للمحقق أنه لا علاقة لي بما نسب، وطلب من أن أذهب لمهجع الفتيات لأن الوقت قد تأخر وأخبرني أنه سأعود إلى منزلي في اليوم التالي، وأثناء تواجدي بالغرفة سألت إحدى المعتقلات عن احتمال أن يقوموا بتفتيش منزلي خلال تواجدي في الفرع، فأجابتني هل لديك ما تخافي منه؟ وبعد الحديث الذي دار بيني وبينها طلبني مدير مكتب عميد الفرع واصطحبني مع العناصر إلى منزلي للتفتيش، للأسف كان ذلك بسبب وشاية تلك الفتاة، قامت المجموعة الأمنية بتفتيش المنزل ومصادرة الكاميرا والحاسوب الشخصي وبطاقات الذاكرة التي تحتوي أغلب نشاطاتي من مظاهرات وتقارير إعلامية وتوثيقات لجرائم النظام، بالإضافة لعثورهم على محادثاتي المحفوظة عبر السكايب مع الثوار والناشطين، وهنا تبين لهم بأني فاعلة في الحراك الثوري، ليتغير مسار التحقيق في قضيتي إلى قضايا إرهاب كان المحقق يتفنن في صياغتها، بقيت مدة ستين يوما تعرضت فيها للضرب والتهديد بالاغتصاب ومن ثم اجبروني على أن أبصم على محضر مؤلف من عدة أوراق لا أعلم ما بداخلها.. ثم تم ترحيلي إلى فرع الأمن العسكري بدمشق 215 ليعاد التحقيق ذاته، وبعد عشرين يوما تم تحويلي وإيداعي في سجن عدرا المركزي ضمن قسم يسمى جناح الإرهاب الذي يوجد فيه مئات المعتقلات اللواتي عانين في الأفرع الأمنية ليكون هذا السجن هو نهاية المطاف قبل أن يعرضن على القضاء التابع لمحكمة الإرهاب، بالنسبة لي لم أتعرض إلى التعذيب الشديد الذي تعرضت له الكثير من المعتقلات، لكن التعذيب النفسي الذي واجهته كان يفوق التعذيب الجسدي، حيث كان يتم التحقيق معي في ساعات متأخرة من الليل ليمتد إلى الصباح، كما أنهم كانوا يقومون بتعذيب المعتقلين وضربهم بأبشع الأدوات أمام عيني، وأنا أتخيل أن هذا الرجل هو أبي وذاك الشاب هو أخي… حتى أفقد السيطرة على أعصابي لأصرخ وأقول لهم: خذوا ما تشاؤون من اعترافات.. "أنا إرهابية..أنا مع أسامة بن لادن… لكن لا تقتربوا مني".
 
سجن عدرا المركزي
 
كانت العقوبات داخل سجن عدرا المركزي أقل بكثير من الأفرع، حيث كان قضاء يوم في المنفردة هو أشد العقوبات.
كانت زيارة الأهل هي نافذة الأمل الوحيدة التي تنتظرها كل المعتقلات لتلتقي كل منهن بأهلها بعد غياب شهور داخل الأفرع دون أن يعلم أحد عنها شيء، حيث ان أهل بعض المعتقلات أقمن عزاء بعد ان فقدوا الأمل من الوصول لأي معلومة تفيد بأنهن على قيد الحياة، كما أن هناك معتقلات تفتقدن لأي تواصل مع أهلهن إما بسبب وفاة الأهل أو نزوحهم أو انقطاع الطرق والاتصالات.
 
حكايا المعتقلات
 
لم أكتف بالعمل في مجال الحراك الثوري خارج السجن فقط…بل قمت أنا وإحدى السجينات بتوثيق جرائم النظام والانتهاكات التي مورست داخل أقبية الأفرع الأمنية على هؤلاء المعتقلات التي تنوعت فيها أساليب التعذيب في كل فرع… وكل منهن لها حكاية مؤلمة تذرف العين عليها حزنا و ألما…. فالشابة (ه-ع) تعرضت للاغتصاب في فرغ الدفاع الوطني ولا تعلم كيف ستواجه المشكلة مع أهلها ومجتمعها…والمعتقلة (ب- م) التي اعتقلت وهي حامل وأنجبت داخل السجن لتموت طفلتها أمام أعينها بسبب قلة الرعاية والدواء دون أن تستطيع أن تفعل شيئا… أما صديقتي (أ- ص) التي بقيت عشرة أشهر احتفاظ في فرع المخابرات الجوية وخمسة أشهر في سجن عدرا لتأتي دورية من الشرطة العسكرية وتقتادها إلى جهة مجهولة لنعلم لاحقا أنه تم أخذها إلىسجن صيدنايا كي ينفذ فيها حكم الإعدام… أما بالنسبة لـ (ن- ط) التي لا تهمة لها سوى أنها ابنة حمص العدية التي استشهد زوجها تحت التعذيب وأمها إثر القصف على حيهم وطفلتها أثناء النزوح وهروبهم من بطش النظام…هي معتقلة منذ عامين دون أي محاكمة.
الفتاة التي تعرضت لأبشع أنواع التعذيب هي (إ- ب) حيث قام العناصر بكسر ظهرها على بساط الريح داخل فرع سعسع وتركها معلقة مدة يومين… هذا الفرع لا يفرق في تعذيبه بين الرجال والنساء.
أما في فرع المنطقة 227 كانت (م-ع) في طريقها إلى الحمام برفقة صديقتها، فأثار فضولهما رائحة كريهة منبعثة من المطبخ… غافلتا السجان وتسللتا إلى المطبخ لتريا بطانية عسكرية التفت على جسد شاب صغير كانت آثار التعذيب تظهر عليه، وكان قد كتب على جبين الشاب 5101 هو رقم الجثة بتاريخ 27/8/2013 فكم وصل رقم الشهداء في يومنا هذا؟
في فرع الأمن العسكري في دمشق كانت الفتاة الأكثر صبرا (د-م) التي دامت فترة اعتقالها داخل الفرع عشرين شهرا، لم تر طوالها ضوء الشمس، بل شاهدت ما هو أعظم، إنهم معتقلون منسيون من ثمانينيات القرن الماضي وما زالو على قيد الحياة.
ما لم أكن أتوقعه هو أن ألتقي بالمعتقلة طل الملوحي التي فوجئت بوجودها داخل سجن عدرا، لتكون شاهدة مرة أخرى على جرم النظام خلال فترة الثورة في سوريا.
و أخيرا وبالرغم من أن الحياة منحتني الحرية خارج قضبان السجن وبعيدا عن العسكر…إلا أنني ما زلت معتقلة في مجتمع كان كثير الوعود قليل التنفيذ.
معتقلة في هم الحياة اليومية. وجدت نفسي مع حريتي وحيدة في زمن الخذلان والانتظار، أشتاق للحميمية التي كانت تعيشها معتقلات السجن، وقبل أن أنام تعبر في ذاكرتي تلك المعذبات والمنسيات في غياهب المعتقلات. عاشت الثورة أنثى رغم كل الظلم والقهر.