الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بعد سبعة أعوام: الربيع العربي يجدد نفسه

بعد سبعة أعوام: الربيع العربي يجدد نفسه

16.01.2018
د. سعيد الشهابي


القدس العربي
الاثنين 15/1/2018
كادت منطقة الشرق الاوسط تشهد "ربيعا" آخر بعد سبع سنوات على ما حدث في مطلع العام 2011. فقد حدثت اضطرابات واسعة النطاق في بلدان عربية عديدة، لكنها هذه المرة انطلقت لاسباب معيشية بسبب تصاعد الاسعار وتردي الاقتصادات بشكل عام. ومع ان ثورات الربيع العربي انطلقت اساسا بدوافع سياسية ولكن شعلتها كانت ذات بعد معيشي ارتبط بالشهيد التونسي، محمد بوعزيزي، البائع الجوال الذي انتفض لكرامته بعد ان اهانه موظف حكومي.
الانتفاضات التي حدثت الاسبوع الماضي في الجزائر وتونس والسودان والبحرين مؤشر لهشاشة الاوضاع السياسية والاقتصادية في العالم العربي. ولا يعني قمع هذه الاحتجاجات نهاية التوتر في منطقة تبحث عن شاطئ آمن يسوده الاستقرار السياسي وتعمه العدالة والعلاقات الطيبة بين الحاكم والمحكوم. وقد يكون صدفة أن تتزامن الاحتجاجات المعيشية الحالية مع مرور سبعة اعوام على اكبر حركة شعبية شهدها العالم العربي منذ عقود، ولكن من المؤكد ان اوضاع المنطقة لن تستقر بدون اقامة منظومات سياسية واقتصادية تلبي شيئا من طموحات المواطنين. وليس مستغربا ابدا حدوث اضطرابات امنية وسياسية كهذه، فهذا هو المتوقع عندما يكون هناك احتقان عميق الجذور، ولكن المستغرب قدرة النظام السياسي العربي على السيطرة شبه المطلقة على الاوضاع. انها ليست سيطرة محصورة بحدود القطر الواحد، بل ان هذا النظام المدعوم اساسا بالمال النفطي الهائل والدعم الامني الانكلو ـ الأمريكي ـ الاسرائيلي، استطاع السيطرة على الحدود ايضا. فقد طور منظومته الأمنية لتشمل انشاء جهاز "الانتربول العربي" الذي تضم قوائمه عشرات الآلاف من النشطاء العرب. وسعى هذا النظام العربي لاستغلال الانتربول الدولي ولكن نجاحاته محدودة حتى الآن.
في مطلع الشهر الحالي حدثت اضطرابات واحتجاجات في مدن إيرانية عديدة، كان عنوانها في الاساس ذا بعد اقتصادي نتيجة تراجع الاوضاع الاقتصادية في الجمهورية الاسلامية الإيرانية، وسرعان ما توسع ذلك العنوان ليستهدف النظام السياسي الذي حكم إيران منذ قرابة الاربعين عاما. يومها تحركت كافة ادوات التحالف المناهض لإيران وثورتها وسياساتها، فعرضت وكأنها ثورة عارمة على النظام وانها على وشك اسقاطه إلى الابد. النظام الإيراني تحرك لاظهار وجه آخر للوضع بتشجيع مسيرات مليونية جابت اغلب المدن واستمرت اسبوعا، واظهرت حجم الدعم الشعبي للنظام السياسي. ولكن ما كادت الازمة الإيرانية الداخلية تتراجع حتى انطلقت الاحتجاجات المعيشية في بلدان عربية عديدة، ما تزال مستمرة حتى الآن. ومن الصعب التنبؤ ما اذا كانت ستتحول إلى ثورات سياسية، ولكن الامر المؤكد انها تعبير عن حالة احتقان عميق لا تحتاج الا لثقاب صغير لتتحول إلى ثورات يسقط فيها الضحايا وتستدعى فيها الاحتياطات الأمنية وتبدأ انظمة الحكم في التراجف.
والملاحظ ان بلدا عربيا كبيرا على الاقل لم تصله الاحتجاجات بعد، وهي المملكة العربية السعودية برغم الازمات العديدة التي تعاني منها. والملاحظ هنا ان الوفرة المالية لدى الحكم السعودي ساعدته على استباق الازمة باعلان تقديم مساعدة مالية لموظفي الدولة تصل إلى حوالي 250 دولارا شهريا تستمر عاما كاملا. جاء ذلك بعد اعلان الرياض (ومعها البحرين والامارات) فرض ضرائب جديدة على السلع الاساسية خصوصا البنزين. هذا الغلاء المفروض ادى لاحتجاجات في البحرين ضمن فعاليات ثورتها التي لم تتوقف منذ انطلاقها قبل سبعة اعوام. ولكن هل تستطيع هذه الدول تحاشي المحذور المتمثل بانتفاضات شعبية تنطلق بدوافع اقتصادية ثم تتحول إلى ثورات تغييرية؟ قد يبدو ذلك ضربا من الخيال خصوصا مع وجود سياسات امنية ضاربة لدى هذه الانظمة، ولدى الدول الداعمة لها في تحالف "قوى الثورة المضادة" التي تشمل أمريكا وبريطانيا و "اسرائيل". والسؤال هنا: هل يمكن الاعتماد على هذه الاجراءات لمنع الاضطرابات السياسية التي تؤدي للتغيير؟
الواضح ان الاعوام السبعة التي اعقبت قمع ثورات الربيع العربي لم تستطع ايصال الرسالة المهمة للانظمة الريعية التي وفرت الوفرة المالية لديها حماية مهمة بوجه الاحتقانات الشعبية والاحتجاجات ضد سياسات التقشف وفرض الضرائب وخفض الانفاق على الخدمات العامة. وبدلا من معالجة الاسباب الحقيقية التي دفعت شباب العرب للانخراط في الاحتجاجات التي عصفت بعدد من الدول العربية، عمدت انظمة تلك الدول وكذلك الدول المرشحة لمثل هذه التصدعات، لتطوير اجهزتها الأمنية مستعينة بجهات ذات خبرة طويلة في قمع مناوئيها خصوصا الكيان الإسرائيلي. وبدلا من العكوف على قراءة مدلولات الغضب الشعبي واسبابه والسعي لاسترضاء المواطنين بالحوار، افتعلت أزمات خارجية وداخلية لاشغال الرأي العام بها بعيدا عن الانشغال بهموم الإصلاح والتغيير.
والأخطر من ذلك ان بعض الأنظمة استثمر مليارات الدولارات لمعاقبة الشعوب التي ثارت من أجل التغيير، فبعثت قواتها لقمع شعب البحرين كاجراء أول في مسلسل قمع الشعوب الثائرة من قبل قوى الثورة المضادة، ومزقت ليبيا تمزيقا رهيبا، ودمرت سوريا بالإرهاب الذي ليس له حدود، وتم إنهاك مصر بانقلاب عسكري قوض قوة البلد العربي الاكبر وحوله إلى بلد تابع لانظمة حكم تستمد قوتها ليس من شعوبها بل من الخارج.
واصبحت مصر في قبضة العسكر بدون رحمة، وفتحت سجونها لتضم عشرات الآلاف ولتتحول إلى واحد من أشد بلدان العالم قمعا. واخيرا استهدفت اليمن بحرب حصدت ارواح اكثر من عشرين ألفا من ضمنهم نساء واطفال، وادت إلى انتشار الامراض والمجاعة. واصبحت اليمن، مهد حضارة سبأ وحاضنة سد مأرب، أسيرا لدى بلدين احدهما عمره لا يصل الخمسين عاما، ولم يتشكل الا بعد الانسحاب البريطاني من الخليج في 1971.
وتواطأت قوى الثورة المضادة للامعان في امتهان الشعوب العربية بانماط غير مسبوقة من التنكيل والحصار والتجويع. فهل ادى ذلك إلى حل المشكلة الاساس التي كانت وراء تفجر ثورات الربيع العربي؟
ان ما حدث الاسبوع الماضي من اضطرابات في البلدان المذكورة مؤشر لعمق الاحتقان الذي تعاني منه شعوب المنطقة، وتأكيد لحتمية قيام ثورات تغييرية جديدة. صحيح ان ثورات الخبز في الثمانينيات في مصر وتونس والمغرب لم تؤد لاندلاع ثورات سياسية كبرى، ولكن ما جرى في السنوات السبع الاخيرة من اضطهاد منظم لشعوب المنطقة واستخفاف بمقدراتها وقيمها وحقوقها ووجودها قد عمق الشعور العام بالظلامة والاهانة، وهو شعور عادة ما يتحول إلى ثورة عارمة تعصف بما حولها. وبدلا من احتواء الازمة التي كان الربيع العربي مصداقا لها، ساهمت سياسات قوى الثورة المضادة التي استهدفت الشعوب الثائرة بابشع اصناف التنكيل، في التأسيس لمرحلة مستقبلية جديدة، ستنطلق الثورات الشعبية فيها بوهج أشد وإصرار أقوى على التغيير. فلا يمكن قتل طموحات الشعوب بالعنف فحسب، بل بالسعي لتلبية طموحاتها او شيء منها على الاقل. اما سياسات الاستضعاف والاستسخاف والتضليل فلا تؤدي الا إلى المزيد من الاحتقان والاستعداد للمواجهة.