الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حرب الدلالات في الحدث السوري

حرب الدلالات في الحدث السوري

09.04.2016
بدرالدين عرودكي


القدس العربي
الخميس  4/7/2016
حرب الدلالات؟ منذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة السورية، قبل نيف وخمس سنوات، انطلقت معها أيضاً وبموازاتها، لا حرب الكلمات، بل حرب الدلالات، وإن كانت الكلمات حواملها. فبموازاة الحدث الواقعي كانت الكلمة بما تنطوي عليه من دلالة تُسَمّيهِ أو تضفي عليه من الصفات ما يقترب منه أو يبتعد عنه حسب مصدرها. هنا كانت "المظاهرة" مثلاً في مواجهة الرصاص أو القتل أو السجن (ألم يحذر وزير داخلية النظام الأسدي يوم 15 آذار/مارس 2011 المتظاهرين في حي الحريقة بدمشق قائلاً: "يا إخوان، هذه مظاهرة"! وجنباً إلى جنب كانت هناك كلمة الثورة في مواجهة كلمة المؤامرة بدلالات كل منهما. الأولى تدعمها الإرادة، والثانية يعززها البطش.
السياسة أساساً لغة، كما كان أنطون المقدسي يقول. ومن ثمَ فالمفردات التي استخدمت على صعيد السياسة في هذا الصراع بين شعب ثائر ونظام استبدادي كانت سلاح الدلالات المُضفاة على الأفعال. يستخدمها النظام الأسدي شراعاً يحاول به أن يوجِّه المركب قبل أن يغرق؛ شأنه في ذلك شأن القوى الأخرى التي أملت عليها مصالحها التواجد في الميدان السوري بصورة أو بأخرى.
لكنَّ اللغة يمكن أن تكون مرواغة. تلك واحدة من صفاتها المقوّمة. وفي هذه المراوغة على وجه الدقة إنما تكمن طبيعة حرب الدلالات في فضاء الحدَث السوري.
قبل أن يسطر أطفال درعا على جدران مدينتهم الجملة التي أدت إلى قلع أظافرهم وتعذيبهم وإهانة آبائهم أدرك النظام وهو يشهد هرب بن علي من تونس وتنازل مبارك عن كرسيِّه أن دوره، كما كتبوا لرأس هذا النظام، آتٍ لا محالة. فاتخذ قراره. لم يكن الحل الأمني وُجهَته الوحيدة، بل، وهو الأهمُّ استراتيجياً، تشويه معاني ودلالات الفعل الثوري بالكلمات معززة بكل ما يدعم الدلالات التي أراد إضفاءها عليها. لم يكن كذلك حلفاؤه أو خصومه الحقيقيون أو الظاهريون مخدوعين بكلماته وبدلالاتها، بل كانت بالأحرى حجة تُضاف في خطابهم إلى حجج أخرى باستخدامها حسب الموقف واللحظة والمُخاطَب.
هكذا واجه النظام الأسدي دعوة المتظاهرين السوريين إلى "إسقاط النظام" بالحديث عن "مؤامرة خارجية" سرعان ما استحالت "مؤامرة كونية"، ثم اجتماعهم يوم الجمعة في المساجد لانطلاق مظاهراتهم بالإشارة ـ كذباً وتلفيقاً ـ إلى "إمارات إسلامية" أقيمت هنا وهناك. كلمات باتت جزءاً من قاموسه. لكنه وقد عجز عن وأد الثورة ذاتها، حاول الالتفاف عليها وتقديم كافة المبررات لحلفائه كما لمن يُعتبرون "خصومه" كي يبرروا على الأقل قبولهم به أو وقوفهم إلى جانبه، فاستخدم "الإرهاب" فعلاً وكلمة كي يُصار إلى قبول انخراطه فعلياً فيما صار يطلق عليه "الحرب على الإرهاب". ولم يكن ذلك على كل حال إلا امتداداً لموقفه الأول من ثورة الشعب عليه. كل من يعترض على وجوده، وكل من يتطلع إلى إسقاطه بات في نظره "إرهابياً". أما في مجال الحلول التي كانت تقترح عليه فكان يرفض منها ما يستخدم كلمة "المفاوضات" أو "المعارضة" ما دامتا تعنيان الاعتراف بطرف مقابل يناهضه، ويواجه بها "الحوار" "تحت سقف الوطن" فضلاً عن أكثر الكلمات ضبابية: "الشعب السوري".
مع النظام الأسدي، كان حليفاه الرئيسيان، إيران وروسيا، يلحّان باستمرار على "شرعية" النظام الأسدي مقابل "فقدان الشرعية" التي كان يستخدمها "الخصم" الأمريكي والأوروبي. وهو ما يشير إلى وجود تواطؤ خفيٍّ في التعامل مع الحراك الثوري السوري بدأ على صعيد الدلالة بين حليف النظام، روسيا، و"خصمه "الولايات المتحدة. وهو تواطؤ كان يتجلى في أن الطرفين متفقان على أن ثمة في الأصل "شرعية" ما، لا تزال قائمة في نظر الأول لكنها باتت مفقودة في نظر الثاني! وهم إلى ذلك يتفقون معاً على ضرورة الحفاظ على "الدولة" في تجاهل تام لطبيعة العلاقة القائمة بين "النظام" الأسدي و"الدولة" السورية منذ أكثر من خمسين عاماً، وهو ما اتضح في مفردات "الحل السياسي" المقترح على النظام و"المعارضة المعتدلة" بعد اتفاق على "ضرورة محاربة الإرهاب" في تبنٍّ واضح لمفردات النظام الأسدي، مع حرية غير معلنة لكل طرف بالطبع في تحديد من هي "الجماعات الإرهابية" في سوريا بعد اتفاق الجميع على تصنيف تنظيم الدولة كذلك: النظام الأسدي: كل من يحمل السلاح ضده؛ روسيا: كل من يحارب النظام الأسدي؛ أمريكا: تنظيم الدولة أولاً ثم جبهة النصرة وما يماثلها تالياً.
لم يكن أحدٌ من الأطراف كلها، النظام وحلفاؤه وخصومه الإقليميون والدوليون، إذن، مخدوعاً بدلالات كلمات سواه. ومن ثمَّ كانت المراوغة اللغوية قانون الجميع. ذلك أنَّ الرأي العام في الديمقراطيات الغربية هو المقصود أساساً في الخطابات المراوغة الموجهة له حول الحدث السوري، نظراً لأهميته في تعديل موازين القوى أو في توجيه الخيارات السياسية، وكانت وسائل الإعلام الناقلة المثلى لهذه الكلمات/المفاتيح، تؤكدها بالتكرار وبالتفسير، وكذلك باعتمادها "مفاهيم" لإدراك "ما يجري في سوريا".
والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى. يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى أكثرها بلاغة في هذا المجال. أولها، وربما أكثرها مدعاة للسخرية، مواقف إيران حول ثورات الربيع العربي ثم حول الثورة السورية. فبقدر ما كان حماس المسؤولين الإيرانيين شديداً لما حدث في تونس وفي مصر بقدر ما استحال هذا الحماس تنديداً بما جرى في سوريا. ولقد أسهمت مآلات الأحداث فيما بعد لا إلى تعزيز موقفهم السلبي من الثورة السورية فحسب، بل وإلى استخدامها حججاً على صواب هذا الموقف.
المثال الآخر هو ذلك الخاص بالخطوط الحمراء. سيتعيَّن في هذا المجال التمييز بين استخداميْن لهاتين المفردتيْن من قبل طرفيْن يتفاوتان في الموقع والقدرة وحرية المبادرة: تركيا والولايات المتحدة الأمريكية. فحينما حاصرت قوات النظام الأسدي مدينة حماه بعد أشهر من المظاهرات السلمية بمئات الألوف (تموز 2011)، ثم اجتاحت المدينة بحجة "القضاء على العصابات المسلحة التي تقوم بتخويف وإرهاب الأهالي"، بدا كما لو أن المدينة التي دمرها النظام الأسدي وقتل أكثر من ثلاثين ألفاً من أهلها قبل ثلاثين عاماً من ذلك التاريخ وكأنها على وشك أن تعيش المحنة مرة أخرى. يومها تحدث أردوغان، وكان رئيساً للوزراء، عن حماه، كخط أحمر. لم تُدَمَّر حماه، لكن مدناً أخرى دُمِّرَت، وقرى استبيحت، ولم يتمّ تفعيل هذا الخط الأحمر!
كان الحديث عن الخط الأحمر هنا قبل أن يلوّن الدم شوارع المدن السورية المدمَّرة. لكن استخدامه، بعد إمعان النظام الأسدي في القتل والتدمير في أرجاء سوريا، بصدد استخدام السلاح الكيمياوي، كان ذروة في حرب الدلالات المعنيّة هنا. كأنما كان استخدام الأسلحة الأخرى كلها وبلا تمييز، من الكلاشينكوف إلى الصواريخ البالستية، مسموحاً به مادام منحصراً وراء الخط الأحمر الذي يؤلفه استخدام السلاح الكيمياوي! هكذا اكتفى البيت الأبيض بعد حشد الأساطيل والطائرات غداة ضرب غوطة دمشق بالسلاح الكيمياوي ليلة 21 آب 2013، بقبول تسليم النظام الأسدي كافة مخزون سوريا من الأسلحة الكيمياوية واختفى الخط الأحمر من الوجود!
وأخيراً لا آخراً، كان ردّ النظام الأسدي على الشعار الذي رفعه الثوار السوريون في مظاهراتهم في بداية الثورة: واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد، أن قدم نفسه للعالم بوصفه "حاميَ الأقليات" التي تهددها "الجماعات المسلحة"!
لا تزال حرب الدلالات مستمرة، وبقوة. وليس خروج المظاهرات من جديد في المدن الخارجة عن سيطرة النظام الأسدي إلا دلالة جديدة على أن الثورة لا تزال، رغم الأخطاء التي ارتكبها من تصدوا لتمثيلها، في براءتها الأولى وعلى أنها ستستمر.
 
٭ كاتب سوري