الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حسين العودات… صورة مثقفٍ سوريٍّ: فاعلا وشاهداً

حسين العودات… صورة مثقفٍ سوريٍّ: فاعلا وشاهداً

07.05.2016
بدرالدين عرودكي


القدس العربي
السبت 5-5-2016
لم يرَ حسين العودات وهو يغادر عالمنا قبل حوالي أربعين يوماً ما كان يدرك مقدار صعوبته ويتوق في الوقت نفسه إلى رؤيته وشهوده وحضوره: سقوط النظام الأسدي، هو الذي وقف منذ لحظة "الحركة التصحيحية" الأولى مناهضاً ومقاوماً ومفنداً لهذه العملية الانقلابية، العسكرية بثياب مدنية، أو العكس، والتي كانت خاتمة الانقلابات العسكرية وبداية عهد استبداد عمل مؤسِّسُه على أن يكون أبدياً يُوَرّث إلى ما لانهاية ويستعبد شعباً لم يعرف الخنوع يوماً لكل من مرّ عليه من حكام على امتداد العصور.
منذ تلك اللحظة أيضاً كان حسين العودات قد حدّدَ موقعه وأعلن موقفه بلا تردّدٍ ولا مواربة: قطيعة مع ماض حميم طبعته رومانسية شابّ قدِمَ إلى المدينة من أعماق حوران بعد أن جاب أرجاءها جمّالاً قبل أن يصير مدرّساً ثم مسؤولاً في دوائر التربية والتعليم والتقطت ذاكرته البصرية والإدراكية منها مشاهد فقر وبؤس ستسهم في صياغة وعيه الفكري والسياسي وتحمله على الانتماء لحزبٍ كان في بداية عهده أوائل الخمسينيات من القرن الماضي موئل الشباب الغاضب على التخلف وعلى هزيمة تاريخية تجسدت في نكبة فلسطين، مؤمناً كأقرانه بالقدرة على التغيير في وطن تتنازع عليه المصالح والأطماع، فردية وجماعية، داخلية وخارجية.
لكنها قطيعة مع أطرٍ وضربٍ من الممارسات طبعت الحزب الذي انتمى إليه، حزب البعث، والذي كان سواه من أمثاله يعلن منذ وصوله إلى السلطة بانقلاب عسكري عن مأساة نهايته بعد مأساة بداياته، لا مع الأفكار التي كانت تتعمق إذ تعاد صياغتها في غمرات الممارسة وفي التجربة كي تنعكس سلوكاً متماسكاً يلغي كل فاصل بين النظر والعمل.
قطيعة استعاد بها حريته مثقفاً وسياسياً وإعلامياً مستقلاً تمام الاستقلال عن نظام الاستبداد وأركانه وأطره بل وضمن بعض مؤسساته التي لم يكن عمله فيها عدداً من السنوات يحول بينه وبين ممارسة هذه الحرية المستعادة. لكن للحرية مع ذلك ثمن لا بد من دفعه في نظام قام على ما أعلنه مؤسِّسُه: "لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير" حين عهد إلى ستة عشر فرعا أمنيا القيامَ بوظيفة هذا "الضمير"! هكذا لم يكف حسين العودات عن زيارات مكاتب "الضمير" الأسدية على اختلافها مطلوباً طوال سنوات حكم مؤسس الاستبداد في سوريا وحتى وفاته. ذلك أن كل ما كان يرطن به هذا النظام من ديمقراطية صورية وحرية خلبية ومقاومة كاذبة لم يكن ليخدع وعياً حاداً بالمشكلات السياسية والاجتماعية التي يعاني منها بلده، ولا ضميراً حياً ما كان للمناصب أو للمغريات التي كان يحاول النظام بها استرداده لإسكاته أن تثنيه عن الصدق مع نفسه أولاً ومع سوريا التي استحوذت على ملكاته الفكرية والنفسية والاجتماعية لا يغادرها إلا ليعود إليها مهما لاقى من عنت "الدوائر الأمنية" أو صلف رجالها وصفاقتهم.
لكنه مع تأسيسه "دار الأهالي" سيواجه ضروباً أخرى من الإرهاب الأمني لن تثنيه هي الأخرى عن السير في الطريق الذي رسمه لنفسه. ههنا يتيح لزملائه من المفكرين والكتاب والمبدعين السوريين والعرب تقديم ثمرات مشاركاتهم في نقد الوضع العربي عبر نشرها في الوقت الذي ينشط هو الآخر في إطار مؤسسات عربية مثل الأليكسو (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم)، أو المعهد العربي للدراسات الاستراتيجية، أو اتحاد إذاعات الدول العربية أو في الكتابة الصحافية مثلما سيوالي نشر عدد من أبحاثه وكتبه في مجال الفكر السياسي والتاريخ والإعلام.
إلى جانب ذلك كله، ولم تكن المرحلة الثانية من الأبدية الأسدية قد بدأت بعد بتتويج بشار الأسد رئيساً وريثاً، كان يباشر الفعل من جديد على الأرض حين بدأ المشاركة مع عدد من النشطاء في تأسيس "لجان إحياء المجتمع المدني" في سوريا والمشاركة بفعالية في ما عرف بـ "ربيع دمشق"، ثم مع آخرين عام 2005 في كتابة "إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي"، الذي تضمن في بنوده الأساسية خطوطا عريضة لعملية التغيير الديمقراطي في سوريا وكيفية إنهاء النظام الأمني الشمولي الذي سيطر على الشعب السوري وقدراته أكثر من أربعين عاما. وقد واجه الموقعون عليه في السنوات التالية مختلف الاتهامات من قبل السلطة الأسدية وأبواقها وكابد بعضهم الاعتقال والتعذيب. وفي عام 2006، شارك مع مجموعة من السياسيين والمثقفين اللبنانيين والسوريين في كتابة "إعلان بيروت/دمشق ـ إعلان دمشق/بيروت" من اجل إقامة علاقات سورية لبنانية على أسس جديدة تمحو آثار ثلاثين عاماً من الوصاية وتعتمد التكافؤ والتعاون والمصالح المشتركة بين البلدين.
لم يتوقف حسين العودات خلال سنوات المرحلة الأسدية الثانية عن ممارسة عمله ناشراً ونشاطه كاتباً ومفكراً ومناضلاً، وكذلك زائراً مطلوباً من قبل دوائر الأمن أو سجينها بين الحين والآخر، إلى أن قامت الثورة السورية التي سيجد فيها مآل بل وتجسيد حلم جيله ممن حلموا بمجتمع مدني وديمقراطي، وسيتابع طوال سنواتها الخمس وحتى النفس الأخير نشاطه الحثيث فكرياً وميدانياً وإعلامياً.
كان أحد المثقفين الذين دعوا منذ بداية الثورة إلى وحدة المعارضة والحوار بين ممثليها. ولئن كان أحد مؤسسي "هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي" بل ونائب رئيسها فإنه سرعان ما تخلى عن العمل في إطارها بعد أن فقدت مصداقيتها شعبياً إثر قيام بعض ممثليها بالدعوة إلى ضرب من التعاون مع النظام.
شهد أصدقاؤه كيف كان لا يتوانى عن المشاركة في الاعتصامات وفي المظاهرات. وكان من دمشق يواصل الاستجابة إلى نداءات القنوات التلفزيونية المختلفة للمشاركة في ندواتها أو التعليق في نشراتها الإخبارية مفسراً لمجريات أحداث الثورة ومعلقاً عليها بجرأة لا يكاد يجاريه فيها أحد من المعارضين الباقين في دمشق، مسجلاً عنف النظام الأسدي في تعامله مع المتظاهرين وفي كذب إعلامه ومراوغة ممثليه في كل مجال.
ولأنه كان يعرف طريقه الذي اختطه لنفسه منذ البداية، فقد كان أيضاً أنبل وأكثر كبرياء من أن يستجيب إلى أية مغريات يمكن أن تودي به إلى مهالك المذلة والتبعية الرخيصة، كان من الطبيعي أن يكون جريئاً إذ بقي بدمشق لا يغادرها معلناً على الملأ كل ما يفكر به دون مواربة أو نفاق. على أن هذه الجرأة لا توازي لديه إلا السخرية، السخرية بما هي بعد إنساني، تلك التي تنبئ عن إنسان بلا أوهام عن نفسه أو عن الآخرين؛ وربما كانت هذه السخرية بالذات هي التي أحاطت جرأته بسياج مكين يحميه شرَّ عنف السلطة الأمنية مثلما حماه كذلك من عنف مآخذ بعض خصومه من الذين كانوا لا يجارونه في التجربة وفي الثقافة وفي الحكمة.
فهم حسين العودات السياسة بوصفها فن الممكن، وكان ذلك أساس سلوكه في علاقته مع النظام ممثلاً في أجهزته الأمنية مثلما كان كذلك أساس علاقته مع هيئات المعارضة ومواقفه منها. لكن فهمه هذا لم يكن يعني على الإطلاق رفضاً للثورة بما هي طموح إلى التغيير الأعمق والأشمل، وإلا لما خرج متظاهراً مع المتظاهرين ومعتصماً مع المعتصمين. سوى أنه كان يدرك كل الإدراك طبيعة هذا النظام الشرسة التي تجلت خلال السنوات الخمس من الثورة بكل قدراتها الإجرامية، وكان يخشى بفعل ذلك مدى نتائج العنف الذي يمكن أن يمارسه النظام من أجل استمرار أبديته.
حسين العودات: فارس ترجل بكل عنفوان كبريائه، مثالاً ونموذجاً لمثقف سوري، فاعل وشاهد، قلَّ مثيله هذه الأيام.
 
٭ كاتب سوري