الرئيسة \  واحة اللقاء  \  خمسة أعوام من الكوارث تؤكد ضرورة التغيير

خمسة أعوام من الكوارث تؤكد ضرورة التغيير

18.02.2016
د. سعيد الشهابي



القدس العربي
الاربعاء 17/2/2016
بعد خمس سنوات من انطلاق ثورات الربيع العربي وقمعها يمكن القول ان الضحية الاخرى لقوى الثورة المضادة هو العقل العربي الذي ضرب في صميمه، واستسلم امام الضربات الموجعة من تلك القوى. فما عاد هذا العقل يتمتع بالحرية والليبرالية التي رفع شعاراتها اجيال سبقت من المفكرين والكتاب والعلماء خصوصا في مراحل النضال الوطني ضد الاستعمار، وما اعقبها. ونتيجة تلك الهزيمة تداعى الوعي العام في الشارع العربي، وتراجعت الشعارات التي كان بعضها يردد في العقود السابقة والتي استمر ترديدها وممارستها عمليا خلال الشهور المعدودة للربيع المشار اليه. بدأت هزيمة العقل والمنطق عندما استطاعت قوى الثورة المضادة تنفيذ الانقلابات المتكررة على الثورات، ورضخ اصحاب الفكر والقلم للواقع الجديد الذي فرض بقوة السلاح والمال، سواء في شوارع القاهرة او دمشق او صنعاء او المنامة. كان يفترض ان تكون بصائر تلك النخبة اقوى من الغشاوة التي فرضتها تلك القوى على الجماهير. غير ان مراجعة سريعة لانماط التفكير في السنوات الخمس الماضية تؤكد استسلاما مطلقا لشعارات لا يستطيع ذوو التوجهات النيرة قبولها او ترويجها. عمد اعداء التغيير منذ الايام الاولى للصحوة العربية الموؤودة لاحداث قطيعة نفسية وسياسية وايويولوجية بين قوى التغيير الشعبية، تارة على صعيد الايديولوجيا السياسية واخرى بترويج مقولات الامن والاستقرار وثالثة باستخدام لغة التغيير التي يستخدمها المحتجون، ورابعة بالتخويف من "الإسلام السياسي" وخامسة بتعميق التمايز المذهبي.
كان حراك شعب البحرين من اول تجليات تلك الثورات، عندما خرجت الجماهير في الرابع عشر من شباط/فبراير من ذلك العام مطالبة بالتغيير كمخرج من ازمة سياسية استمرت عقودا. ويشهد تاريخ النضال الوطني البحراني انه لم يكن يوما مؤسسا على أجندات دينية او مذهبية، بل بشعارات وطنية وباساليب سلمية. تجلى ذلك خلال قرن من النضال المتواصل، بدأ في مطلع العشرينات من القرن الماضي عندما كان البريطانيون يهيمنون على المنطقة ويديرون شؤونها اليومية. فبعد ما سمي "انتفاضة البحارنة" في 1922 تدخل البريطانيون لاستبدال الحاكم الطاعن في السن آنذاك، الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، بنجله الشيخ حمد الذي حكم حتى وفاته في 1942. وتواصل التعاضد الوطني متأثرا بالثقافة التحررية المناهضة للاستعمار والهيمنة الغربية، التي بثها المثقفون الشاميون والمصريون الذين وفدوا على البحرين لممارسة التعليم. وتذكر الوثائق كيف ان الانكليز استطاعوا في نهاية العشرينات، ابعاد الاستاذ السوري، حافظ وهبة، بعد ان اتضح انه من مروجي الفكر القومي المناهض للاستعمار. ولكن الوعي والشعور بالانتماء لامة العرب حال دون تراجع الشعب عن الاستمرار في نضاله على طريق بناء دولة عصرية مؤسسة على التوافق الوطني ومتجاوزة خطوط التمايز الديني او المذهبي. ولذلك وقع البحرانيون، سنة وشيعة، اول عريضة مشتركة في العام 1938 للمطالبة بالمشاركة في القرار السياسي والاداري. كان ذلك التحرك انعكاسا لما كان يجري في الكويت ودبي آنذاك من تحركات طرحت اهدافا مماثلة. كانت ردة الفعل البريطانية القيام بإبعاد عدد من رموز ذلك الحراك إلى الهند ومنهم احمد بن لاحج وعبد الوهاب الزياني.
توالت الانتفاضات في العقود التالية حتى بلغت اوجها في منتصف الخمسينات، يومها ظهرت "هيئة الاتحاد الوطني" بقيادة عدد من رموز الوعي الحديث، من السنة والشيعة. ولكن الانتفاضة التي استمرت عامين ضربت من قبل البريطانيين عندما خرجت المسيرات الشعبية في نهاية شهر تشرين الأول/اكتوبر 1956 منددة بالعدوان الثلاثي على مصر، واستهدفت المصالح البريطانية على نطاق واسع. ردة الفعل كانت شرسة، فحدثت الاعتقالات وتمت محاكمة قيادات الانتفاضة، وقرر البريطانيون ابعاد ثلاثة من قادتها هم عبد الرحمن الباكر وعبد العزيز الشملان وعبد علي العليوات، إلى جزيرة سانت هيلانة النائية بالمحيط الاطلسي. وتواصلت الاحتجاجات الشعبية بطابعها التحرري الوطني في الستينات والسبعينات والتسعينات، واشترك البحرانيون (من السنة والشيعة) في الزنزانات التي بقيت حتى وقت قريب تحت ادارة البريطانيين.
الثورة الحالية التي انطلقت متناغمة مع الربيع العربي، كانت حصيلة جهود متواصلة استمرت عقودا ومثلت كافة شرائح المجتمع وتعالت على محاولات التتفتيت والتمزيق. السبب كان الوعي الذي فرضته تطورات المنطقة: النضال ضد الاستعمار، الوعي القومي، احتلال فلسطين، الخطاب الوحدوي المنطلق من القاهرة من الاربعينات حتى الستينات، تفوق الخطاب القومي على الدولار النفطي الذي تكاثر لاحقا ولعب دوره في فرض واقع يخلو من الوعي الوطني والقومي ويكمم الافواه ويحارب العقل ويكرس ثقافة الجاهلية، ويروج ثقافة التطبيع مع المحتل. وقد بلغ اليأس من امكان تحريك الشارع العربي مدى كبيرا، خصوصا بعد ان اصبح العمل العربي المشترك تقوده قوى الثورة المضادة، بدلا من القيادت الوطنية التي ظهرت بعد حقبة الاستعمار واستمدت شرعية وجودها وبعدها الجماهيري من تصديها للاحتلال الاسرائيلي. كانت قضية فلسطين طوال ستين عاما، الخيط الذي جمع شتات الامة بعد ان سعى المستعمرون لتمزيقها بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية. وعلى مدى قرن كامل كان لمفكري الامة وعلمائها دور في التوعية ولم الشمل ومنع التشظي، ودور آخر في ابقاء شعار التغيير قائما، لمواجهة التركة الاستعمارية الثقيلة التي فرضت عليها انظمة حكم تمارس القمع والاستبداد وتضحي بالمصالح الكبرى من اجل الحفاظ على كراسي القلة الحاكمة.
كان ذلك واضحا لدى مفكرين كبار، ابتداء من الامام حسن البنا، مرورا بعز الدين القسام و الحاج أمين الحسيني وآية الله البروجردي والامام الخميني ونواب صفوي ومالك بن نبي والشيخ محمد الغزالي. وعندما حدثت الصحوة الإسلامية في السبعينات والثمانينات ساد الاعتقاد بانها ستكون الفصل الاخير في رحلة العرب والمسلمين التاريخية من اجل استعادة الهوية المؤسسة على الحرية واحترام الانسان وممارسة العدالة والشورى. وكان الربيع العربي التجسيد العملي الاكبر للتحول المنشود. ولكن قوى الثورة المضادة استطاعت القيام باكبر انقلاب سياسي وامني وفكري وديني، وتمكنت من اعادة الاوضاع إلى المربع الاول الذي سبق سقوط الخلافة.
في مثل هذه الايام قبل خمسة اعوام كانت الصورة مختلفة تماما. ونظرا للنشوة التي عمت شعوب المنطقة، لم يكن احد يعتقد بامكان الانقلاب على ارادة شعوبها، خصوصا ان الصحوة الجديدة مدعومة بمسلسل من الانتصارات على الاحتلال الاسرائيلي الذي كان في نظر الكثيرين، المعوق الاكبر للتحول الديمقراطي في المنطقة العربية. شعب البحرين شارك بقية شعوب المنطقة بحراكه السلمي، ولكنها استقبلت بحساسية مفرطة من جانب النخبة التي كان يعول عليها في مجال الوعي وتحاشي الاستغفال والاستهبال والاستدراج لاجندات معادية للتغيير. استمرت هذه الثورة طوال الحقبة المنصرمة وما يزال شبابها يتظاهرون يوميا بدون انقطاع.
الى اين تتجه ثورة البحرين؟ الامر المؤكد ان التغيير في البحرين لن يحدث بمنآى عما يحدث في المنطقة. وبرغم قمع الثورات الاخرى فما تزال مشاعر الجماهير تلتهب حماسا ورغبة في التغيير. ولا شك ان مصر هي الدولة العربية الكبرى التي تتطلع لها بقية الشعوب، برغم ضرب ثورتها بانقلاب عسكري دعمتهذ القوى المعادية للتغيير. يدرك البحرانيون انهم يخوضون معركة صعبة ويطالبون بما يبدو مستحيلا. انهم يرون ما حدث في اليمن التي تتعرض لحرب منذ قرابة الاحد عشر شهرا، وترى إلى اين وصلت الاوضاع في سوريا التي اصبحت ساحة لصراعات الدول الاقليمية والدولية. ووضع ليبيا ليس مختلفا كثيرا، فقد تقاسمتها الاطراف المتصارعة واصبحت هي الاخرى حاضنة لمجموعات التطرف والإرهاب. البحرانيون غير مستعدين للتضحية بامن بلدهم وشعبهم، كما انهم لن يستسلموا للقمع السلطوي الذي لم يتوقف يوما، ويعتقدون ان من الضرورة بمكان حدوث التحول الديمقراطي في منطقة تأخرت عن ركب الاصلاح السياسي عقودا. والامل ان تستيقظ العقول والقلوب وتتمرد على محاولات الاحتواء او التحييد او الاستقطاب، لتقف مع مشاريع التغيير السلمي الهادفة لاستعادة الحقوق المشروعة للشعوب، وفي مقدمتها تقرير المصير واختيار النظام السياسي المناسب. فالبديل لذلك الفوضى والعنف والتطرف والإرهاب.
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن