الرئيسة \  واحة اللقاء  \  دماء الشعوب العربية تستقبل العام الميلادي الجديد

دماء الشعوب العربية تستقبل العام الميلادي الجديد

07.01.2016
د. سعيد الشهابي



القدس العربي
الاربعاء 1/6/2016
استقبل اغلب الشعوب العام الميلادي الجديد بمشاعر الأمل والتطلع إلى عالم أكثر أمنا، برغم استمرار اسباب التوتر والاضطراب. ولكن العالم الإسلامي كان مختلفا في مشاعره ومستوى تطلعاته، برغم ايمان افراده بالإسلام الذي لا يقر التشاؤم. فالذكرى الخامسة لانطلاق ثورات الربيع العربي كانت باهتة، لم يذكرها الكثيرون، او يتوقفوا لاستحضار مدلولاتها الفريدة من نوعها في عالمنا المبتلى بالاستبداد والديكتاتورية والانتهاكات الفظيعة لحقوق الانسان، او آفاق التحول الديمقراطي المنشود.
والدماء التي تهدر يوميا تحجب مشهد الحريق الذي اشتعل في جسد مواطن مظلوم بمدينة سيدي بوزيد التونسية، ليشعل كبرى الثورات العربية المعاصرة. فمن يتذكر محمد بوعزيزي الذي أشعلها؟ ومن يستطيع استحضار روح الامل ومشاعر الفرحة بتلك اليقظة التي قل نظيرها والتي عمت البلدان العربية من الخليج إلى المحيط؟ سيستمر السجال حول تفسير الظواهر التي عمت هذه المنطقة في غضون شهور قليلة بعد تلك الصحوة.
القليلون فقط هم الواعون بان ما يجري اليوم من مآس وتمزق وطائفية وإرهاب هو من صنع قوى الثورة المضادة التي تشكلت على وجه السرعة في مثل هذه الايام في 2011. كان الهدف الاول لهذه القوى اخماد لهب الثورات بأي ثمن، وكسر شوكة الشعوب والسيطرة على عقول ابنائها لتوجيهها بعيدا عن الشعارات التي رفعت في شوارع تونس ومصر وسوريا والبحرين واليمن. كان صوت الثورة يعلو على كل ما سواه، ومشاعر التضامن والاخوة واعتبار ثورة الشعوب مشروع تحرير للامة تتجاوز التباينات الدينية او المذهبية او العرقية. فمن يريد التغيير لا يفكر إلا بمنطق الوحدة والتضامن وحشد الطاقات نحو ذلك الهدف. اما منطق تمزيق الامة وفق خطوط التمايز العرقي او المذهبي، او حتى الايديولوجي، فانه آفة التغيير والتطور والتحول الديمقراطي. هذا هو الدرس الاول الذي تؤكده وقائع السنوات الخمس السوداء التي ارهقت كاهل الشعوب وكسرت نصال الثوار، والتي شهدت اعادة الاوضاع إلى أسوأ مما كانت عليه قبل ذلك. اليوم يسرح الصهاينة ويمرحون في ساحات المسجد الاقصى، حتى لا تجد هتافات شباب "الانتفاضة الثالثة" من يقرأ اخبارها او يردد ما تطلقه حناجر الشباب المثقلة بالغازات المسيلة للدموع والرصاص القاتل، ولا يرتفع صوت واحد لاستنكار الاصوات التي تتجاهر بالتطبيع مع قوات الاحتلال، او التي تقر دخول "اسرائيل" شريكا في تحالف "قوى الثورة المضادة".
وجاءت انباء استمرار قتل الفلسطينيين وتصاعد اعداد معتقليهم في السجون الاسرائيلية إلى اكثر من سبعة آلاف، لتضيف لمشاعر الاحباط والالم. فكيف تكون مشاعر المصريين الذين تتجاوز اعداد معتقليهم العشرين ألفا او السعوديين الذين اكدت وزارة داخلية بلادهم ان حوالي ستة آلاف منهم يقضون احكامهم داخل السجون، او البحرانيين الذين لا يقل عدد معتقليهم عن ثلاثة آلاف؟ ومع استمرار جريان انهار الدم في سوريا والعراق واليمن وليبيا فان الامل لا يجد مساحة واسعة في نفوس الكثيرين.
المجتمعات الحرة لا تقر اخضاع السلطات الثلاث او المرجعيات الدينية للسلطات التنفيذية، بل تصر على فصل السلطات لكي تستطيع العدالة ان تأخذ مجراها بعيدا عن الاهواء السياسية او المذاقات الفردية خصوصا لدى المتنفذين في اجهزة السلطة. العدل اساس الملك، هذا هو المبدأ الذي يتردد على ألسنة الكثيرين ولكنه لا يتجسد عمليا في مواقف الافراد. فالسكوت على الظلم ليس عدلا، والسكوت على ظلم المظلوم يتنافى مع مبدأ العدل، والتصفيق للديكتاتورية او مسايرتها او السكوت على التسلط، كل ذلك مصاديق لغياب عدالة الموقف لدى الشخص او المجموعة.
وهنا يجدر التفريق بين عالمين: حر ومستعبد. في عالم الحرية يقرر البشر مواقفهم وفق القيم الانسانية (التي ينسجم اغلبها مع المبادىء التي جاءت بها الاديان)، فيرفضون الظلم او التمييز او التهميش او تكميم الافواه، او انتهاك حقوق الانسان، او الحروب غير العادلة، فتكتب الصحف ضد اي انحراف عن المبادىء العامة التي دونها الاعلان العالمي لحقوق الانسان، ويرفضون اساليب الاستغباء او الاستعمار او الاستحمار. اما حين تغلب الشعوب على امرها ويتم اخضاعها لانظمة حكم تفرض نفسها بالقوة وتستخدم السلطات التي بايديها اسلحة ضد مناوئيها، تنتشر ظواهر الخوف والجبن والخشية من السجن والتعذيب والاعدام، وهنا تتضاءل المشاعر الانسانية لدى الكثيرين، ولا يرتفع إلا صوت الاستسلام والنفاق والتضليل والتملق، وتتشوش الرؤية لدى الكثيرين فلا يستطعيون التمييز بين ما هو قصاص عادل او انتقام شخصي او فئوي. فحين يحكم على الرموز الكبيرة المطالبة بالتغيير او المطالبة بتحرير الاوطان تارة بالاعدام واخرى بالسجن المؤبد وثالثة بالابعاد واسقاط الجنسية، ويقابل ذلك بالصمت وعدم الاستنكار، فان ذلك يؤدي للمزيد من التوتر السياسي والاجتماعي، ويؤسس لانتفاضات وثورات مستقبلية قد تتجاوز في حجمها وتأثيرها ما سبقها من احتجاجات. فكما ان الشعب الفلسطيني يرفض الاستسلام لواقع الاحتلال وممارساته الظالمة والاستئصالية، فان شعوب الدول العربية هي الاخرى لا تقبل بالتهميش او الاستعباد او الاستبعاد. ولذلك فالاجراءات او الاحكام الجائرة التي تلغي حق الانسان في الحياة انما تساهم في تعميق الازمة وتؤسس لثورات مستقبلية.
في الذكرى الخامسة لاندلاع الثورات العربية فان من يتذكرها ويعيد فتح ملفاتها ويتحدث عن مآسي الشعوب العربية التي استهدفتها قوى الثورة المضادة، لا يؤبنها، ولا يؤمن بانها دفنت إلى الابد، او ان فرص التغيير قد تلاشت تماما.
فالسجن والاعدام والتعذيب والنفي ليست اساليب ناجعة لعلاج الازمات او التعاطي مع متطلبات الشعوب. فالقمع يوفر مادة للاحتجاج الذي قد يصل إلى الثورة. وبتنفيذ السعودية الاعدامات الجماعية فانها اسست لتوترات قادمة. فقد توعد تنظيم "القاعدة" بالرد على تلك الاعدامات، اما اعدام الشيخ النمر وستة آخرين من ابناء المنطقة الشرقية فتداعياته قد تكون على عكس ما كانت الرياض تأمله. جاء الاعدام على خلفية تصدي النمر قبل اربعة اعوام للشأن السياسي ومطالبته حكومتي السعودية والبحرين بالاصلاح السياسي، الامر الذي ترفضه الرياض والمنامة. وبرغم مناشدات جهات سياسية ودينية وحقوقية عديدة بعدم تنفيذ احكام الاعدام الجماعية إلا ان السلطات السعودية ربما ارتأت ان الاستجابة لذلك مؤشر لضعفها السياسي، ولذلك اقدمت على ذلك مع علمها بحدوث ردود فعل غاضبة. وقد ازداد الوضع في منطقة الخليج توترا في الايام السابقة نتيجة تصعيد الحرب الإعلامية بين الرياض وطهران حتى اعلنت السعودية قطع علاقاتها مع إيران، وتبعتها البحرين كذلك. وليس معلوما بعد ما إذا كان هذا التصعيد سيفضي لمواجهات عسكرية ام سينحصر بالتراشق الإعلامي والسياسي.
الامر المؤكد ان السعودية تتصرف الآن بشكل مختلف عما كانت عليه قبل بضعة اعوام. فهي تتسلح بشكل غير مسبوق، وتتصرف اقليميا وفق دبلوماسية متحركة تهدف لتحويل السعودية إلى قطب اكثر تأثيرا وتحكما في المحيط الاقليمي. الامر المؤكد ان المنطقة مقبلة على صراع خطير، وقد يكون العام الميلادي الجديد من اشد السنوات الاخيرة في ابعاده الأمنية والعسكرية والسياسية على الشرق الاوسط. ويبدو ان حرب اليمن لن تكون الاخيرة، بل ربما هي مقدمة للدخول بجولات حقيقية من الصراع الدموي الذي سيكون، هذه المرة، اكثر توحشا وأشد إيلاما وخطرا على ما تبقى من الوشائج والعلاقات بين شعوب المنطقتين العربية والإسلامية.
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن