الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سايكس بيكو تضع الحدود بين النصرة وتنظيم "الدولة الإسلامية"

سايكس بيكو تضع الحدود بين النصرة وتنظيم "الدولة الإسلامية"

31.05.2015
وائل عصام



القدس العربي
السبت 30/5/2015
لعل من حق سايكس وبيكو أن يدعيا أنهما فرقا حتى بين "أخوة المنهج" من الجهاديين الإسلاميين، بعد أن ظلت حدودهما حاجزا لحلم الوحدة عند القوميين العرب، أو حتى بين السوراقيين المؤمنون بسوريا الكبرى كأمة تجمع العراق والشام، على نهج أنطوان سعادة مؤسس الحزب السوري القومي.
ويبدو أن حصر المشروع الجهادي في سوريا سايكس بيكو هو نتيجة تزاوج وتلاق بين رغبتين جامحتين، رغبة الأنظمة والقوى الإقليمية المحمية من الغرب، وهم يريدون الحفاظ على المنظومة الاقليمية القائمة (وهو بالمناسبة عكس ما يسعى له تنظيم الدولة الذي يريد نسف المنظومة كليا وقد ينجح في ذلك)، تريد الأنظمة إبقاء المارد الإسلاموي السني داخل قفص صمم سابقا لاحتوائه، وهو "الدولة القطرية"، أما الرغبة الثانية فهي إصرار الجهاديين من خصوم الدولة الإسلامية بالتمايز عن فكرة التنظيم ومشروعه، والهروب من سلطته المكانية العابرة لحدود العراق وسوريا، فذهبوا إلى ما يناقض جوهر الرابطة الإسلامية، وضرورات التعاضد السني، بل هي إعادة تدوير وانتاج للدولة القطرية السورية لكن بثوب إسلامي، وهذا يتفق تماما مع ما قاله العطيوي وهو أحد قادة جبهة النصرة المنشقين عنها، بعد أن أمضى شهورا يقاتل تنظيم الدولة في دير الزور، حيث يؤكد في مذكرات نشرها، أن قادة النصرة خلافهم مع الدولة هو "خلاف إداري حبا بالإمارة فقط"، ولعل اللافت أن اكثر من انتقده العطيوي في مذكراته تلك، هو العراقي أبو مارية الجبوري، الذي بدا وكأنه منسجم مع الشاموية، وهو العراق، فقط نكاية بتنظيم الدولة الذي كان يوما أحد قياداته في الموصل، وما زال أحد أخوانه غير الاشقاء عضوا فيه حتى اليوم!
والمفارقة أن الطرح الذي تتبناه النصرة عن حدود مشروعها الشامي هو تنازل ليس فقط عن أبجديات المشروع الإسلامي الذي يهدف أصلا لإحلال الرابطة العقائدية العابرة محل الروابط المحلية، وليس فقط عن ضرورات مواجهة المشروع الإيراني الشيعي، تقتضي تكاتف سنة العراق وسوريا في كيان موحد يواجه الكيان الشيعي الموحد من إيران حتى لبنان، بل هو تنازل لم يجرؤ عليه حتى القوميون العرب العلمانيون من الناصريين حتى البعثيين، وصولا إلى قوميي انطوان سعادة المؤمنين بسوريا الكبرى التي تضم العراق والشام في دولة واحدة وأمة واحدة. قد يكون التبرير الذي يسوقه الكثيرون لتفسير هذا التحول بأنه مرحلي لتركيز الجهود على إسقاط النظام ولإبعاد اي صدام مع الغرب والولايات المتحدة، لكن اذا كان الامر كذلك، فلم الانتماء أصلا ل"القاعدة"؟ عدو الغرب وأمريكا الاول، الذي قصف مقرات النصرة وقتل الكثير من كوادرها!
وهكذا يطوع الدين وتحور الشريعة بحسب المصالح السلطوية، التي قد تكون ضيقة ومحلية، من المناطقية الجهوية وتصل الى الفصائلية والحزبية المتعصبة.. فكما حصرت النصرة نفسها باسلاموية شامية تمايزا عن مشروع الدولة الإسلامية الذي يوحد العراق والشام، ثم يمتد ابعد، فلا نستبعد غدا أن نرى فصائل تنادي بإسلاموية حلبية او دمشقية! هي مشاريع سلطة قائمة على النكاية تعطي لنفسها صبغة شرعية، ولا تمانع أن تكون رأسا في أرنب، على أن تكون جزءا من أسد، المهم أن تكون هي الرأس، لذلك تبدو الاكثرية مهترئة ومهزومة بمنازعاتها البينية امام الاقلية المهيمنة بقيادتها الحازمة الممتدة من طهران لبيروت.
التنازع على السلطة والغلبة، هو سبب لتطويع الشريعة واختراع المصطلحات الجديدة في القاموس الجهادي، وفي أحيان أخرى يؤثر التماهي مع أنظمة داعمة والموقف من الحكام ايضا في تبديل اولويات الخطاب والرؤية، كما حصل بين الجامية والسرورية والسلفية العلمية والسلفية الجهادية وغيرها من الحركات الإسلامية، التي تمتلك مصادر التشريع نفسها، بل ومنهج السلف نفسه أحيانا، ولكنها تختلف حسب الموقف من الحكام والرؤية السياسية والمشروع المرتبط بالفهم الحقيقي للذات والعلاقة مع الآخر.
وفي حالة الفصائل الإسلامية في الساحة العراقية والسورية، حصل الأمر ذاته، وهو بقاء التأثير الهائل للتثقيف "القطري" الذي عززته الانظمة القومية ايضا نكاية ببعضها بعضا، فمئة عام من غياب الرابطة الإسلامية المتمثلة بالخلافة ادت لترسيخ روابط "اقطار الوطنية" لدى العرب السنة، وهو ما كان لصالح الاقليات التي تعاظم دورها في هذه المنظومة مقابل تضاؤل دور السنة الذين تقزمت دولتهم داخل حدود تحكمهم فيها احيانا باسم الوطنية أقلية علوية كما حصل في سوريا.. وهكذا فانه حتى الكثير من الجهاديين ما زالوا يقرأون الإسلام السياسي بعيون قطرية، فعقود من التربية وتحوير الهوية منذ النشأة ليست هينة، كما أن ذلك يرد الى محدودية وتواضع التجربة السياسية والحركية لمعظم الجهاديين، الذين يتصدرون الساحة، عندما يحصر " اسلامي جهادي" رؤيته ومشروعه بالشام، بل انني لاحظت أنه حتى كلمة الشام في منظور الكثيرين من جيل الجهاديين الذين نشأوا في عهد التثقيف القطري تعني سوريا بالحدود القطرية، وليس بلاد الشام التي تضم الاردن وفلسطين ولبنان، ولا اعرف إن كان الجولاني قد عبر عن هذا عندما قال في حديثه الأخير، إن مشروعهم يقتصر على الشام فقط ثم تدارك، الشام وحزب الله، وكأن حزب الله اللبناني ليس في بلاد الشام! ولا أعرف إن كانت بلاد الشام تضم في هذا المفهوم الجديد فلسطين؟ لا يبدو أن اصحاب المشروع الشامي يعنون ابدا بلاد الشام، بل يعنون شام سايكس بيكو، وليست بلاد شام الإسلامية التي كانت ايضا تاريخيا اسما لجغرافيا وليست هوية. ولا اعرف إن كان المرددون للطرح الشامي الإسلامي يتناسون أن الدولة الإسلامية الأقوى على ارض الشام وهي الدولة الاموية لم تكن بقيادة اهل الشام، بل بقيادة الامويين من الجزيرة العربية، وكذلك الدولة الاقوى في العراق كانت من العباسيين ابناء الجزيرة، ولم تكن بلاد الشام يوما دولة منفصلة بذاتها عن العراق، خلال الدول الإسلامية التي حكمت المشرق العربي في القرون الماضية.. وتبدو بلاد الشام وحدة جغرافية ولكنها ليست وحدة ثقافية او هوية جامعة يستنبط من حدودها مشروع دولة. وهذا ما اتفق عليه حتى القوميون السوريون المعادون للاسلاموية مثل الحزب السوري القومي، الذي جعل العراق وسوريا وباقي بلاد الشام في دولة واحدة. وطبعا القوميون العرب الذين حكموا البلدين ببعث علوي في دمشق وسني في بغداد لتخضع أنظمة القومية العربية عمليا لواقع قطري.
تبقى جبهة النصرة التي تأسست من قيادات وكوادر تنظيم الدولة، تبقى من التنظيمات الاكثر فاعلية في مواجهة النظام السوري، وهي تضم قيادات ميدانية تحظى بقبول واحترام شعبي كبير في مناطقها، وحتى قبل أن تعلن رسميا كانت المجموعات المنتمية لها فكريا تتصدر المواجهات العسكرية الكبرى مع النظام، وحتى في مناطق لم تبرز فيها بشكل واضح كريف حلب، كان لمجموعاتها دور بارز ضمن الفصائل الاخرى، فأحد المجموعات الرئيسية التي حررت حلب المدينة كانت منضوية بلواء التوحيد، لكنها كانت بقيادة جهادي منتم ل"القاعدة" من كبرى بلدات الريف الشمالي عندان، وبعد مقتله كانت مجموعته من بين النواة الاولى للنصرة في سوريا، وما زلت اذكر صوره المنتشرة بين ثوار الريف الشمالي، في أجهزة حواسيبهم وهواتفهم النقالة، باعتباره رمزا لهم، وإضافة لما سبق، فان ثمة التباس في كلام الجولاني في ما يتعلق بعدم رغبة النصرة في التصادم مع الغرب والولايات المتحدة، بناء على توجيهات الظواهري و"القاعدة".. رغم أن احد الاختلافات البارزة بين سياسات "القاعدة" و"الدولة الإسلامية"، هو أن "القاعدة" جعلت اولويتها في "العدو الامريكي" باعتبار انه هو الداعم لوجود الانظمة، فالظواهري هو الذي يتوعد دائما بشن هجمات على امريكا، مرددا بانهم "لن ينعموا بالامن قبل أن نعيشه في فلسطين"، بينما الدولة بدأت بالانظمة وأولوية العدو الاقرب وما نفذته فعليا كأولوية منذ عشر سنوات هو محاربة الفصائل الشيعية وانظمة بغداد ودمشق، وقمع اي فصيل سني يرفع راية منافسة، وإقامة الدولة بالغلبة في المناطق السنية، لذلك لا يبدو واضحا إن كان الظواهري والنصرة كفرع منضو في "القاعدة" قد بدلا من اولوياتهما، ام أن هناك التباسا في الرؤية السياسية لدى النصرة بين ارتباطهم ب"القاعدة" وبين دورهم في سوريا، وهو دور تتجاذبه داخل النصرة ايضا عدة تيارات على ما يبدو، منها هو الاقرب للقاعدة او الدولة ومنها ما هو عكس ذلك.
وتبقى التساؤلات تدور حول احتمالية التصادم بين النصرة والدولة والاسلامية في المرحلة المقبلة ، خاصة ان بقيت سلطة الاسد قائمة في دمشق وهو اغلب الظن، فعندها ستصبح المناطق المحررة في القرى والمدن السنية ساحة اقتتال سني وتنازع على السلطة بين الفصيلين الجهاديين اللذان يسيطران بالفعل على اغلبية تلك المناطق من اليوم، وكل منهما يدعي وصلا بالشريعة وحاكميتها، لننتهي لقول عثمان بن عفان ( رض) "ان الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرءان".
٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"