الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سميح القاسم والبوعزيزي والأسد

سميح القاسم والبوعزيزي والأسد

24.08.2014
وائل عصام



القدس العربي
السبت 23/8/2014
كثيرون رقصوا ابتهاجا بالثورة التونسية، التي اطلقت شرارة ربيع عربي لبلاد كانت تشكو "هرمنا".. كما قالها أحد الثوار التونسيين الشهير، لكن سميح القاسم هو الوحيد الذي رقص حافيا في شارع الحبيب بورقيبة وفاء لوعد كان قد قطعه على نفسه. كان القاسم ابرز شـــــاعر عربي يزور تونس، بعد اشهر قليلة من سقوط بن علي، ويعلن تأييده للربيع العربي، لكن التجربة التي جمعتني به هو محاولة للمصالحة بين شقيقة البوعزيزي مفجر الثورة والشرطية التي قيل إنها ضربته، فحرق البوعزيزي نفسه مطلقا شرارة الربيع العربي.
كانت الشرطية قد اطلق سراحها وبُرئت ساحتها من القضاء التونسي، لكن الاعلام بقي ينظر اليها كممثل لاجهزة الامن التونسية ذات السمعة السيئة، رغم انها كانت شرطية "معاونة رقابة صحية" ليس الا، ولم تثبت رواية "الصفعة". بالمقابل بدأت عائلة البوعزيزي تتعرض لحملات تشويه من قبيل حصولهم على ثروات طائلة، وفقد البوعزيزي الكثير من بريقه وقدسيته في تونس لدرجة انني عندما ذهبت مع والدته وشقيقتيه لبلدته سيدي بوزيد قام الكثير من الاهالي بالتهجم لفظيا عليهن وانتقادهن وبدأت تظهر حقائق جديدة مختلفة عما روج له الاعلام، فالبوعزيزي لا يحمل شهادة علمية لا جامعية ولا حتى ثانوية عامة، وواقعة "الصفعة" باتت مشكوكا في امرها، بل روجت روايات تقول ان البوعزيزي هو من اعتدى لفظيا على الشرطية. في هذه الاثناء جاء القاسم ينشد شعرا مبجلا للبوعزيزي الذي فقد قدرا كبيرا من رمزيته في الشارع التونسي حينها.
جال القاسم في عدة مهرجانات ومدن تونسية ملقيا هذه القصائد، وعندما نلتقي بعد كل جولة يسألني عن الاشاعات وحملة التشويه التي باتت تتردد عن البوعزيزي.. كان مستاء من الاضرار بصورة رمز الربيع العربي. فاقترحت عليه جمع الشرطية وشقيقة البوعزيزي في فندق في شارع الحبيب البورقيبة، لعمل مصالحة بينهما.. خاصة ان قدرا من الهجمات التي نالت من عائلة البوعزيزي كانت من بلدة الشرطية التي تجاور بلدة البوعزيزي جنوب البلاد الفقير، حيث لا تختلف عداوات القبائل والعائلات هناك عن ليبيا او اليمن.
جلس سميح القاسم مع شقيقة البوعزيزي يحدثها عن ضرورة التسامح، وعن ايمانه بقيم العفو والتصالح، ضاربا امثالا على ذلك من تجربته في فلسطين، كان انسانا عذبا، شفافا، مؤمنا بالمحبة، لكن كل ما قاله لم يقنع شقيقة البوعزيزي بالمصالحة، رغم ان التوتر وصل مرحلة عالية بين العائلتين في جنوب تونس.
وعندما حاولنا ترتيب لقاء جمعهما (شقيقة البوعزيزي والشرطية) رفضتا حتى الجلوس مع بعضهما بعضا. فذهبت كل جهودنا هباء، حتى الفنان التونسي لطفي بشناق كان حاضرا معنا وحاول اقناعهما بلا جدوى.
واجتمعنا ذلك المساء غاضبين محبطين، الا سميح القاسم.. كان متفائلا بروح الشباب، لا يتوقف عن رواية القصص الطريفة، من المقاتل الفلسطيني الذي اراد العودة لفلسطين من تونس حتى جن، وفقد عقله، فصعد على عمود الكهرباء عاريا وقال انه لن ينزل الا الى فلسطين ولم يفلح بانزاله الا ابو عمار.. الى قصص صديقه محمود درويش الذي كان لا يتمالك اعصابه امام بعض المعجبين على عكس القاسم الذي كان يجامل الناس.. فحدثنا عن شخص جاء ليطلب من درويش توقيعه، ثم طلب من درويش ان ينظر له وقال "اطلع فيني منيح مش متذكرني يا محمود" فضحك القاسم واراد "لفلفة" الموضوع وقال له " نعم يبدو اننا التقينا في مكان ما قبل سنوات"، فأصر الرجل وطلب من درويش ان يتذكره، فانفلتت اعصاب درويش قائلا " يبدو ان التلفزيونات اللي عندكم تمكننا نحن من ان نرى الجمهور وليس العكس. ظل سميح القاسم (اليساري العربي) مؤمنا بالربيع العربي ورمزيته، رغم كل ما سمعه عن البوعزيزي وعن احباطات وفوضى الاشهر الاولى بعد سقوط بن علي.. لكن الاختبار الاقسى له كان انطلاق الثورة السورية.. فعندما كنت اسأله عن موقفه من الثورة لسورية كان يعلن صراحة تأييدها، ولكن في المقابل عندما تسأله عن موقفه من النظام السوري لا يتبنى موقفا معاديا او معارضا له… وكذلك لا ينكر علاقته الطيبة بحافظ الاسد، رغم انه روى قصة عن خلاف وقع بينهما حول مجزرة تل الزعتر.
كيساري فلسطيني يبقى موقف القاسم متقدما على الحالة اليسارية التقليدية المعادية للربيع العربي، فالخطاب الرائج لليساريين العرب يعادي حركات الربيع العربي، رغم انها حراك الجماهير المظلومة الفقيرة التي طالما تحدث اليساريون عن نضالهم من اجلها، لكن بما ان الاسلاميين لهم الرصيد الاكبر بين الجماهير، فقد اصبح اليسار العربي التقليدي على صدام مع "الجماهيرالسلفية" من قبل ما يمكن تسميته "اليسار العربي السلفي". الا اذا كانت الجماهير موالية للثورة الاسلامية الايرانية وكان اليسار العربي مواليا لبعث سوريا الاسد، فهنا يصبح الاسلاميون بالنسبة لليساريين "حلفاء تقدميين ثوريين". تحدثت مع القاسم طويلا عن هذه المفارقة، واردت ان اسمع منه وهو ابن الحزب الشيوعي الفلسطيني منذ شبابه، ولم اتفاجأ عندما شن هو الاخر هجوما لاذعا على بعض قيادات هذا التيار (وبعضهم اسماء معروفة ) واصفا اياهم بانهم "ليسوا يساريين وليسوا عربا"، وان ومن يعادي الربيع العربي هو "عربي خرف".
رحم الله سميح القاسم
 
٭ كاتب فلسطيني