الرئيسة \  واحة اللقاء  \  صراع الدِيَكَة في قن الدجاج البشري المدجّن

صراع الدِيَكَة في قن الدجاج البشري المدجّن

29.09.2015
مطاع صفدي



القدس العربي
الاثنين 28/9/2015
قد لا تكون معركة سورية هي من الأحداث الكبرى الذروية في هذا القرن الواحد والعشرين، لكنها سوف تحدد نسبة عالمية غير مسبوقة في تراجيديا ثنائية الصراع الغربي الشرقي الذي ما زال يشكّل أحد أهم محاور التاريخ الحضاري، وليس السياسي وحده.
إنه اليوم، صراع يأخذ صورة تكاد تكون شخصية وفردية إلى حد كبير. إنه صراع الدِيَكَة الأزلي في قن الدجاج العالمي، بطلاه بوتين وأوباما. كل عالم اليوم أصبح يُدرك أن رجلين من المليارات البشرية يعملان بكل جهد لوضع نهاية ما لسلطة السياسة على مصائر الدول المعاصرة. نهاية السياسة من العالم هذا حدث كان مستحيلاً، لكنه بعد اضمحلال متمادٍ للفكر الإنساني، لم يتبقَ في ميادين الصراعات الكلية المجدية إلا وسائل القوة المباشرة. غير أنه في هذا العصر، ليس لأية قوة وحدها أن تحقق ضرباتها القاضية. من هنا تبرز ظاهرة في منتهى الأهمية والخطورة معاً؛ وهي إن مبدأ القوة محتاج هو ذاته إلى المبدأ النقيض، أي الضعف. وذلك لكي يمكن لأصحاب القوة أن يأمنوا من مستقبل أية ردة نحو الانهيار أن يمسكوا بكل أسباب القوة المحتملة اليوم أو غداً.
ها هما بطلا القن الدجاجي العالمي، لا يكفان عن استخدام ثقافة المماحكات الدبلوماسية بينهما من أجل الفوز بما سيتبقى من حطام سورية إلى ما بعد كل جحيم آخر قادم على البلد المنكوب من كل بد غداً أو بعده.
حوار القوة والضعف بين واشنطن وموسكو ليس فصلاً إضافياً لتراث الحرب الباردة منذ أكثر من ستين عاماً؛ إنه في الواقع ضربة من ضروب الحوار الجنوني؛ وسوف تكون هذه صفته المميزة. إذ كيف لصيغة تحالف ما بين القوة والضعف أن تحقق نصراً على عدو بدون أن يسحقه كلياً. ذلك أن بعض المراقبين لتحركات البيت الأبيض يعتقدون أن أوباما، إنسجاماً مع مذهبه (السلمي؟)، لا يؤمن بضرورة زوال الآخر، حتى ولو كان الآخر عدواً لا يُستهان بجبروته (النووي). بل لعلّه يتصور، كما يردّ على منتقديه، إن مستقبل الإنسان في هذا الكون بات في أسوأ توقعات المؤمنين بحتمية الخير النهائي للمجموع البشري. ليس هذا تطلعاً طوبائياً، فإن التاريخ يُنذر سياسيي القرن الحالي أن الكرة الأرضية الحزينة هذه لم تعد تحتمل حروباً كونية جديدة. فالإنسانية تَرْسف اليوم تحت مظالم لن تمحو آثارها المدمرة أيةُ أبدية شاعرية، حتى لو كانت من نوع أحلام وأفكار الرئيس الأسمر في واشنطن.
لكن المشكلة لن تلقى لها معالجة فعلية، وهي ليست مشكلة حرب كونية لا بد من مواجهتها بكل الطرق السلمية مبدئياً، فالنموذج المنتظر لهذه الحرب سيكون مختلفاً ومغايراً لكل ما دأبت حروب الماضي على تنفيذه وتصميمه. إنها لن تكون حرب النهاية لجنس البشر ولا الحجر، بل هي الآتية ببداية لمجهول لم يسبق له مثيل في الحدث التاريخي. بالطبع ليس هناك من يدّعي معرفته ولو ظنياً إذ سيكون من أغرب عجائب المستقبل الإنساني لما بعد حرب النهاية الأخيرة حول مصير الوجود، كما كان يفهمه إنسان هذا العالم ضد تكوينه الأول.
لن نخوض في ميدان النظرات المستقبلية في هذه العُجَالة. ولكن يبقى للحقيقة صوت قابل للسمع رغم ضجيج الصخب المديني الطائش. والحقيقة قد تهمس ببعض ألفاظها النادرة عندما تحاول إنذار بعض العقول الواعية، بأنه لم يعد جائزاً لإنسان العصر النظر إلى الحرب كأنها هي جنة السلام المفقودة، ثم الموجودة بفضل القوة وحدها. نقول هذا ونحن لا نريد المضي إلى ما لا حدود له في الفهم النظري. إذ أننا بدأنا الحديث حول بطولات صراع الدِيٓك في قن الدجاج البشري الحزين. لكن القن المقصود في اللحظة الراهنة يتجسم في دجاجة واحدة، والديكان البارعان هما أوباما وبوتين، هذا بالرغم من عدم التلاؤم بين الأشباه في هذا السياق. لكن المسألة تنطلق أساساً من سورية هذه التي يموت فيها كل يوم مئات من أرواح الناس البريئة لا ذنب لها سوى إنها وُلدت في سورية. هذا البلد الصغير المعذب المجرّح بآلات الوحشيات الموغلة في ظلام العصور، أصبح جوهر العقد بالنسبة لكل من الإمبراطورتين الروسية والأمريكية. ومن أجل هذه الجوهرة يفتتح خبراء الإستراتيجية الدولية حديث العودة إلى مشروع النهاية التي لا تنتهي للإتحاد السوفييتي المنهار. فلماذا لم يمت ستالين بعد، ومن أجل أي إشكال عجائبي تصمم أمريكا (العميقة) على إعادة تسلسل الأخطار المحدقة بها، فتضع روسيا في مرتبة التهديد الأعظم لدولتها. فما مغزى هذا التحول الذي لا صفة له إلا أنه من أغرب أحداث الإمبراطوريات في هذا الزمن. لكنها غرابة تستحق التحليل والفهم الترميزي الجاد. فالقول إن أمريكا كانت طيلة عشرين عاماً الماضية ترفض فكرة العودة إلى عهد الحرب الباردة، كانت تراهن على إمكانية خلق محور واحد يتسلم حكم العالم كلياً، يتقاسم خيراته بنسب ذكية، يتحاشى الصدامات الكبرى بيبن قطبيها وهما معاً يتآمران على بعضهما، لكن بدون محاولات الإلغاء لأحدهما من قبل الآخر.
فليجاهر من يجاهر بالمعارضة ضد ديكتاتورية الاثنين، رغم معارضة العالم كله. لكن سوف يظلّ حكّام موسكو وواشنطن قابضين بأيدٍ حديدية على مفاتيح الحلول لأكبر عِقَد العالم وأبسطها في وقت واحد. بحيث تزول كل الفروقات في المآل الأخير ما بين كل المعايير الجيوسياسية والثقافية يُسيطر معيار أُحادي وإن كان برأسين.
صراع الدِيَكَة الأحدث يتحول إلى جشع الإستحواذ الذي يجدد التناقض السلطوي بين الحليفين، فالعداوة بينهما باتت أشبه بغطاء ظاهري يخفي تحته العداوة المطلقة لكل منهما، ومعاً، ضد العدو الثالث، الذي هو إنذار التاريخ بانقضاء التسلّط الفردي أو الفئوي على الحدث اليومي للسياسة الإقليمية والدولية. ما تخشاه الديكتاتوريتان هو السقوط الحتمي لأنظمة.. الإرغام والقمع الفردي والإستغلال الجماعي أو الفئوي. من هنا يفهم جشع الإستحواذ الذي يسعّر حقائق الأمور البسيطة. فالإستحواذ على سورية ليس صراعاً سياسياً عادياً، إنه ترميز خطير يشي مجدداً بصوت حتمية التاريخ التي تعيد تبشير المؤمنين بجذرية التغيير. ان الماركسية التي كانت هي المبشرة الأولى بمفهوم الجذرية إذ أعلنت عن حتمية سقوط الرأسمالية، قد تكون هذه الفكرة منذ عشرات السنوات أشبه بافتتاحية النصر لكل معركة ضد الإستغلال، إنه عصر بلوغ الديكتاتورية المعاصرة سلطانها. ما تقوله هذه الملاحظة الإضافية على حكمة الماركسية هو انه مازال على الإنسانية أن تخوض النوع الأشرس والمجهول بعد من معارك الوجود واللاوجود ضد الديكتاتورية. فالمدخل الوحيد لإنسانية الإنسان يوماً ما هو الخلاص من الديكتاتورية. ولا بأس أبداً من تكرار هذه اللفظة البائسة. كل الأفكار (الثورية) الأخرى تغدو عديمة الجدوى في ظل حكم الفرد الواحد المتوحش.
 
٭ مفكر عربي مقيم في باريس