الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عفرين وحرب "غصن الزيتون"

عفرين وحرب "غصن الزيتون"

27.01.2018
بكر صدقي


القدس العربي
الخميس 25/1/2018
صحيح أن جميع المبادرين إلى الحروب يغطون دوافعهم العدوانية بمبررات مصطنعة غالباً، وشعارات مفارقة لاستهلاك الرأي العام، ولكن يبدو أن تركيا تتفوق في هذا الميدان على الجميع. فمن كان يخطر بباله تحويل الرمز الأشهر للسلام والوصول إلى بر الأمان بعد الطوفان، على ما تخبرنا قصة سفينة نوح، إلى اسم لحرب عدوانية خارج الحدود، غير تركيا صاحبة السابقة القبرصية، حين اجتاح الجيش التركي الجزيرة الصغيرة بعملية عسكرية أطلق عليها اسم "عملية السلام لقبرص" التي ما زالت تذكر في جميع المصادر التركية، إلى اليوم، بهذا الاسم؟
لا شك أن شجر الزيتون الذي تشتهر به منطقة عفرين أوحى لمتخذي القرار بهذه التسمية الآيرونية، في حين رأت مجلة دير شبيغل الألمانية فيها غصن زيتون تمده أنقرة إلى النظام الكيماوي القابع في دمشق، بعد سبع سنوات من العداء المعلن. ألم يعلن رأس النظام، قبل حين، القوات الكردية المتحالفة مع الأمريكيين بوصفهم عملاء، وعن نيته في استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية؟ وبالنظر إلى عجز النظام عن تنفيذ تهديداته الخلبية بشأن الشمال، هو العاجز عن السيطرة على جوار عاصمته نفسها (معركة إدارة المركبات مثلاً)، فها هي تركيا تقوم بالمهمة بدلاً منه. دون أن ننسى المسار الطويل والمتعرج لعودة العلاقات بين الطرفين، بإشراف روسي، منذ اعتذار أنقرة من موسكو، تموز/يوليو 2016، على إسقاط طائرة السوخوي الروسية.
غير أن هذه القراءة لرمزية غصن الزيتون، من دير شبيغل، لا تفي العملية العسكرية التركية حقها من التحليل. فأن يحصل أردوغان على ضوء أخضر من واشنطن وموسكو معاً، ومن قسم كاسح من الرأي العام المحلي، بعد فترة طويلة من التوتر مع واشنطن، ومن الاستتباع لموسكو، ومن شبه عزلة داخلية باستثناء قاعدته الثابتة من الموالاة، فهذا ما يحتاج إلى تفسير، علماً بأن الجهة الوحيدة التي أبدت اعتراضها على عملية عفرين هي إيران وتابعها السوري.
بالنسبة لهذا الأخير، قيل إن موسكو طلبت من حزب الاتحاد الديمقراطي تسليم المنطقة للنظام لتجنب الاجتياح التركي، فرفض الحزب الأوجالاني هذا العرض. لكن الأمر ربما يتجاوز موضوع عفرين إلى محافظة إدلب المجاورة التي تسيطر عليها فصائل إسلامية محسوبة على أنقرة، أبرزها جبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً). وبالقياس إلى واقعة تسليم شرقي حلب إلى النظام، مقابل التوغل التركي وصولاً إلى مدينة الباب، أواخر 2016، يمكن الافتراض أن روسيا وافقت على فتح المجال الجوي أمام الطيران التركي لضرب عفرين، وسحبت قواتها المتمركزة في بلدة كفرجنة، مقابل سحب أنقرة لفيلق الشام وفصائل أخرى من جبهة جنوب إدلب إلى جبهة عفرين. هذا ما يفسر انقلاب موازين الصراع في الجبهة الأولى لمصلحة النظام، بعدما تكبدت قواته المهاجمة خسائر كبيرة على أيدي "الفيلق" وحلفائه من الفصائل، بصورة متزامنة مع بدء عملية غصن الزيتون الدامي.
المفاجئ أكثر كان الموقف الأمريكي. فقد تخلت واشنطن عن حليفها الكردي بصورة صادمة لهذا الأخير، حين أعلنت صراحةً عن أن منطقة عفرين هي خارج منطقة عمليات التحالف. صحيح أن التصريح لم يأت بجديد، بالنظر إلى أن الأمريكيين سبق وحددوا منطقة نفوذهم بشرقي نهر الفرات، لكن القوات الكردية المسيطرة على عفرين هي امتداد لتلك التي قاتلت داعش من أجل الأمريكيين طوال السنوات الثلاث الماضية.
يمكن تفسير الموقف الأمريكي على أنه محاولة لرأب الصدع مع أنقرة وإبعادها عن موسكو. فتركيا، بموقعها الاستراتيجي ووزنها العسكري وانتمائها إلى العالم الإسلامي، تبقى محافظة على أهميتها بالنسبة لواشنطن، على رغم كل الفتور والتوتر السابقين بين البلدين. وبما أن "دولة داعش الإسلامية" تم القضاء عليها، إلى حد كبير، في كل من العراق وسوريا، يمكن القول إن أهمية الحليف الكردي بالنسبة لواشنطن قد تراجعت عما كانت عليه قبل ذلك. من غير أن يعني هذا استغناء أمريكياً كاملاً عنه. فالاستراتيجية الأمريكية الجديدة في سوريا لا تكتفي بالقضاء على داعش، بل تسعى إلى بقاء عسكري مديد شرق نهر الفرات، ومناطق أخرى، بما يوازن الوجود العسكري الروسي، وصولاً إلى "انتقال سياسي" في سوريا، يتضمن إبعاد النفوذ الإيراني.
كان لافتاً أن لوم الناطقين باسم حزب الاتحاد الديمقراطي وإعلامه قد انصب على موسكو أكثر مما على واشنطن، مما يشير إلى أن الخيارات الضيقة التي تركت له (بين موسكو وواشنطن) ربما تدفعه إلى القطيعة مع الروس واستمرار التحالف مع الأمريكيين، بصرف النظر عن مصير عفرين غير القابل للتكهن الآن.
ذلك أن من سيرسم هذا المصير ليس تركيا ولا حزب الاتحاد الديمقراطي. فالعمليات العسكرية ستتوقف، بعد فترة لن تطول، بتسوية ما بين الروس والأمريكيين. واضح أن الأمريكيين لن يمدوا منطقة نفوذهم غرباً من أجل منطقة صغيرة معزولة، فهذا أمر مكلف سياسياً. لكنهم يستطيعون كف يد أنقرة عن عفرين بتسليمها لنظام دمشق الكيماوي، الأمر الذي يناسب روسيا أيضاً، وكذلك تركيا. ولكن ليس بلا مقابل طبعاً. والمقابل الظاهر منذ الآن هو العودة إلى مسار جنيف، والتخلي عن مشروع سوتشي للحل الروسي. ولعل في انعقاد الاجتماع القادم في فيينا، بدلاً من جنيف، رسالة تعني العودة إلى تفاهمات فيينا الدولية بشأن سوريا، قبل 3 سنوات، التي ولد منها قرار مجلس الأمن 2254 الصادر في 18/12/2015.
داخلياً، ذهبت الحكومة التركية بعيداً جداً في استخدام عملية عفرين في الصراع السياسي الداخلي. فقد هدد أردوغان علناً أي محاولة للنزول إلى الشارع تنديداً بالحرب على عفرين. وبالفعل تم قمع عدة محاولات للتجمع في إسطنبول وأنقرة من قبل ناشطين من البيئة الكردية. وتجاوز عدد حالات التوقيف بسبب مشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي التسعين حالة، بينها الصحافية نورجان بايصال التي حطمت الشرطة بابها واعتقلتها، إضافة إلى عدد من نواب حزب الشعوب الديمقراطي في البرلمان. وبلغت حالة الهياج ذروتها حين دعا مقدم برامج إذاعية إلى قتل كل من يرفض العملية العسكرية، سواء كانوا صحافيين أو نواباً في البرلمان. ومن طرائف تصريحات أركان الحكم بشأن العملية، قول الناطق باسم حزب العدالة والتنمية إن عناصر داعش قد حلقوا لحاهم، في عفرين، وتنكروا في هيئات مقاتلي وحدات حماية الشعب!
 
٭ كاتب سوري